أتى الملك بالصبي وأراد أن يقنعه أن يترك دينه، فقال: يا غلام! ترجع عن دينك؟ قال: لا.
قال: سوف أقتلك.
قال: افعل ما تشاء.
قال: سوف أذبحك.
قال: افعل ما تشاء.
فجاء الملك بالجنود، وقال: اذهبوا به إلى رأس الجبل، فإذا عليتم به أعلى الجبل فاقذفوه من أعلى الجبل على رأسه ليس أي قتل، ولكن قتل بتعذيب لعله أن يصاب بالرعب فيرجع، فإذا بالغلام يُربط ويساق إلى أعلى الجبل، ومعه الجنود والعسكر، فلما علوا به إلى الجبل رفع الغلام يديه إلى الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] إلى من لجأ الغلام؟ هل لجأ إلى أبيه؟ أو إلى أبناء عمه؟ أو إلى قوته؟! لا.
الآن انتفت القوة كلها، ما بقيت إلا قوة الرب جلَّ وعلا، الذي لا حول ولا قوة إلا به، فتوكل على الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت.
فإذا بالجبل يهتز ويرجف بهم، فيسقطون كلهم من أعلى الجبل على رءوسهم، فماتوا ورجع الغلام يمشي على قدميه هل هرب؟ إنه كان يستطيع الهرب، ويستطيع أن ينجو، ولكن ليست قضيته أن ينجو بنفسه وبجسده، إن القضية أعلى من هذا، إنها قضية الإيمان والدعوة إلى الله، ونشر التوحيد بين الناس، حتى ولو مات أو قتل في سبيلها.
وجاء يمشي على قدميه إلى موطن الموت مرة أخرى، فدخل القصر، ففزع الملك، وخاف: من هذا؟! أهو الغلام؟! نعم.
ماذا صنع الجنود؟ قال: كفانيهم الله جل وعلا كيف؟ لقد ماتوا كلهم وسقطوا من أعلى الجبل ماذا تقول؟! هذا الذي حصل، فخاف الطاغية، وجاء بجنود آخرين، وقال لهم: اذهبوا به إلى وسط البحر، ثم ارموه في البحر، وإذا علمتم أنه قد مات وغرق فارجعوا.
-انظروا إلى التعذيب- فأخذوه إلى وسط البحر، ولما أرادوا أن ينزلوه في قاع البحر رفع الغلام يديه إلى الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
في بدر يقول أبو بكر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن جهز الجيش وجعل لكل إنسان مقعداً، جلس خارج الجيش ورفع يديه إلى الله جل وعلا، وهو يقول: اللهم إني أنشدك نصرك يا رب، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض.
يقول أبو بكر: فسقط الرداء من فوق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أرجع الرداء عليه، وأقول له: يكفيك مناشدتك ربك يا رسول الله، إن الله منجز للك ما وعدك) قال بعض الصحابة: كنا في تلك الليلة نائمون إلا رسول الله، كان عند شجرة قائماً طوال الليل يصلي ويدعو الله جل وعلا {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت.
فإذا بموج هائل يأتي ويسقط الجنود كلهم في البحر، فماتوا كلهم غرقى وما بقي إلا الغلام {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
رجع الغلام مرة أخرى إلى القصر، ففزع الملك وخاف، وعلم أنه لن يقدر عليه، فقال الغلام: أيها الملك! إنك لست بقاتلي، ولن تستطيع على قتلي، ولكن إن أردت أن تقتلني فافعل ما آمرك به.
قال الملك: وماذا تأمرني؟ الآن الغلام يأمر الملك الطاغية، وانظر كيف انقلب الحال!! فإن النصر الآن لهذا الغلام.
فقال: اجمع الناس في صعيد واحد واصلبني، وخذ سهماً من كنانتي، وقل: باسم الله رب الغلام، ولن تقتلني إلا بهذه الطريقة، ثم ارمني بالسهم فإن فعلت ذلك فإنك قاتلي الملك الآن أهم قضية عنده هو أن يموت الغلام، فقد صار عنده كالكابوس، رعب وفزع وبدأ الخوف في قلب ذلك الملك، فالمهم أن يموت هذا الغلام.
فجمع الناس في صعيد واحد والناس في تلك اللحظات يترقبون.
أمر من الحق؟ أمر الغلام أم أمر الملك؟ والناس في ريب من أمرهم، والغلام الصغير يعلم أنه سوف يقتل لكنه ضحى بحياته وبروحه من أجل هذه الدعوة، هذا الذي هو الآن يقبل على الحياة، شاب صغير، والغلام في ريعان شبابه يتمنى أن يعيش في الدنيا، لكنه ضحى بجسد وبدمه الطاهر لله جل وعلا فإذا بالملك يقف أمام الناس، فيأخذ سهماً من كنانته -والناس ينظرون- ويرفع صوته، ويقول: باسم الله رب الغلام، والناس يسمعون، ويرمي الغلام بذلك السهم، فيقع السهم في صدغه على وجهه فيضع الغلام يده على وجهه، ثم تفيض روحه إلى الله جلَّ وعلا.
ومات الغلام لكنه انتصر، مات لكنه فاز، وعندما مات الغلام إذا بالجموع تهلل وتكبر، وتقول: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام.
فالتفت الملك مذهولاً!! إن الغلام ملطخ بدمائه لكنه منتصر انتصر بدعوته، وضحى بجسمه وجسده وروحه لله جل وعلا، لكنه انتصر، فقد آمن الناس كلهم فقال الجنود: أيها الملك! قد وقع الذي كنت تحذر منه، قال: احفروا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كل من لم يرجع عن دينه، فجاءت الجموع ترمي بنفسها في النار، وهي تقول: الله أكبر! آمنا بالله رب الغلام، حتى جاءت امرأة بيدها رضيع وهي تؤمن بالله، فقيل لها: ارجعي عن دينك وإلا رميناك في النار.
قالت: بل أرمي بنفسي في النار، وكأنها تقاعست وترددت ما ذنب هذا الرضيع؟ ما ذنب هذا الغلام؟ فأنطق الله الغلام في المهد، وقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق.
فرمت بنفسها ورضيعها في النار.
قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] لِمَ كل هذا يا رب: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9] شهد الله موت الغلام، وشهد الله حال الناس، وشهد الله فعلتهم، والله على كل شيء شهيد.
لقد مات الغلام وضحى بجسمه، وبروحه في سبيل الله، لكنه انتصر فما زال ذكره إلى أن تقوم الساعة، قتل أصحاب الأخدود، وهم في جنة خالدين فيها.
أيها الإخوة الكرام: هذه ثلاثة مواقف مرت علينا كثيراً في كتاب الله، لكن هلا توقفنا عندها وقفات نتدبرها!
هلا استشعرناها يا عباد الله!
إن هذه القصص لا يخبرنا الله بها للتسلية، أو لقضاء الأوقات، أو لأجل أن نقصها فقط على الصغار أو الكبار، لا يا عباد الله! إنما هي للاعتبار: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] إن القرآن الذي بين أيدينا عظيم، قد ملأه الله بالقصص والعبر والآيات والأوامر والنواهي، فهل نحن معتبرون -يا عباد الله- أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟
أقول هذا القول، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.