(ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم: منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان -وبدأت الأسئلة، إنه الاختبار، إنها الفتنة العظيمة -شديدا الانتهار- ليس أي ملكين، إنهما ملكان شديدا الانتهار، إذا نهرك يا عبد الله تنسى اسمك من اسم غيرك- شديدا الانتهار فينتهرانه) يغلظان له في الكلام، نعم صالح لكنه اختبار، نعم مصلٍ لكنه اختبار، قارئ للقرآن، قائم لليل، يصوم النهار؛ لكنه اختبار وفتنة؛ ليتبين الصادق من الكاذب، يتبين قوي الإيمان من هش الإيمان.
(فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ -أول سؤال، وأول اختبار، من ربك؟ - فيقول: ربي الله) بكل ثبات ويقين، وبكل شجاعة يقول: ربي الله، لا يتلعثم فيها، ولا يتردد بها، ولا ينساها؛ لأنه ملأ قلبه بحب الله جل وعلا، كان يقوم لله، وينام لله، ويذكر الله جل وعلا صباح مساء، الله عز وجل أحب إليه من كل شيء، من نفسه وماله وولده والناس جميعاً، يحب الله عز جل حباً عظيماً: (من ربك؟ ربي الله، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) نعم.
كان يتبعه في سنته حذو القذة بالقذة، يسأل كيف صلى فيصلي مثله، كيف حج ليحج مثله، يسأل كيف صام فيصوم مثله، يسأل كيف كان يدعو، كيف كان يلبس، كيف كان يأكل، يحب اتباعه في كل شيء، فيتبعه عليه الصلاة والسلام في كل مستحب وواجب ويحبه، فإذا به يقول: (هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت) العلم هو الذي دله على هذا، علم الكتاب والسنة، علم الشرع يا عبد الله، ما كان يسمع أحاديث الناس، ما كان في دينه يصلي لفلان وفلان، كان أول ما يبحث وأول ما يسأل عن آية من كتاب الله، أو عن حديث من أحاديث رسول الله، لهذا قال: (قرأت كتاب الله تعالى، فآمنت به وصدقت).
ثم يعاد الاختبار مرة ثانية: (فيقولان: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فذلك حين يقول عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]-اسمع الإجابة- فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -الآن النتيجة- فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره) ولعل أهله يبكون، ولعلهم يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أعينهم تدمع، ومنهم من يقول: مسكين فارق الدنيا، أنتم المساكين! لقد فرش له من الجنة، لقد ألبس من الجنة، ولما يغادر أهله المقبرة، ولما يكملوا بعضهم تعزية بعض، وقد ألبس من الجنة وفرش له من الجنة.
اسمع تتمة البشارة: (قال: ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيمٌ مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد).
هذه يومك يا من تصلي الفجر! هذا يومك يا من تعتكف في المساجد! هذا يومك يا من غضضت البصر وكففت عن الحرام! كان الناس يخوضون في الربا وكنت تصبر وتتحمل وتكتفي بالحلال، كان الناس يفعلون المنكرات وأنت تصبر عن الحرام (هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له: وأنت بشرك الله بالخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح) أنا قراءة القرآن، أنا الدعوة إلى الله، أنا قيام الليل، أنا بر الوالدين، أنا الحج، أنا العمرة: (أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً) نعم، قد يعصي الصالح ربه، وقد يقع في الذنب: (كل بني آدم خطاء) لكنه بطيء، لكنه يندم ولا يصر، أما في الطاعات فإنه سريع، يقوم نشطاً للصلاة، يقوم مسرعاً للنفقة، أول إنسان يأتي إلى المسجد، إذا أخبر عن مجال الدعوة إلى الله كان في المقدمة، إذا أخبر بالجهاد كان الأول، إن دعي للتصدق كان الأول، إن أمر بالصلاة يقف نشيطاً سريعاً في الطاعة، أما في المعصية يندم، ويتأخر ويقدم قدماً ويؤخر أخرى، فإن وقع في الذنب رجع وأناب واستغفر: (ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، وبابٌ إلى النار يرى منزله في النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة) يرى القصور والأنهار، يرى الجنان، ومكانه فيها يا عبد الله! وقبل يوم أو قبل ساعات كان في الدنيا معذباً، كان في الدنيا متعباً، ينصب في طاعة الله، بعد ساعات رأى منزله في الجنة.
يا عبد الله: لعلك في بعض الأحيان إن مات أحد الصالحين قلت: مسكين كان ينوي أن يفعل كذا وكذا لكنه سبقته المنية، بل لعلنا نحن المساكين، لعله رأى منزله في الجنة وأنت لا تدري: (فيقول: فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن) فينام نومة لا يستيقظ إلا على قيام الساعة، نومة خفيفة، نومة لا يحس فيها إلا بالنعيم والراحة.