قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالٍ على الآخرة) يعني على فراش الموت، لعل ابنته عنده تبكي، وولده يبكي، ولعله في حادث سيارة، ولعله في فراش المرض، أو لعله ساجد أو راكع، أو لعله يقرأ القرآن أو يستمع إليه، انقطع من الدنيا وبدأ يقبل على الآخرة.
(نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه) مؤمن، صالح، تقي، قارئ للقرآن، داعية إلى الله، مجاهد، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، طالبٌ للعلم، بارٌ بوالديه، واصلٌ لأرحامه، اسمع: (نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفان الجنة) قماش من الجنة، كفن من الجنة.
يا عبد الله: تخيل منظره، تخيل رائحته، تخيل منظر هذا الكفن، بل منظر من يحمله: (وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر) أي يجلسون أمامه إلى أن يذهب آخرهم على مد البصر يا عبد الله: هذه بشارة ولعل من حوله يبكون وهو فرح، ولعل زوجته عنده تنوح وهو مستبشر، ولعل أمه تبكي وهو يطرب فرحاً بلقاء الله جل وعلا، ورؤية الملائكة البيض بشارة في الدنيا قبل دخول القبر: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه) وأنت لا تراه، أنت لا تحس به، هو موجود عنده في الغرفة، ولعله يقبض روحه وبعد قليل يأتي إلى أحد الجالسين، ولعله بعد أيام ينتظر أحد الذين يبكون، هو جالسٌ عند رأسه وأنت لا تدري ويقول: (أيتها النفس الطيبة المطمئنة) اطمأنت بم؟
اطمأنت -يا عبد الله- بالقرآن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28] اطمأنت ببر الوالدين، اطمأنت بصلاة الفجر، وبالسجود والركوع، اطمأنت بذكر الله جل وعلا: (يا أيتها النفس الطيبة المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) الله أكبر! يبشر بالمغفرة، يبشر بالرضوان: (فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء) تخيل قطرة تخرج من فيّ السقاء، لو ينزل الماء فتبقى قطرة تنزل، هل تحس بالصعوبة؟ هل تحس بشقاء؟ هل تحس بألم؟ تخرج كما تسيل القطرة، بنعومة وسهولة! (حتى إذا خرجت روحه صلَّى عليه كل ملكٍ بين السماء والأرض) يصلون عليها ويدعون لها، ويستغفرون لها.
عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع شبرٍ إلا عليه ملك راكع أو ساجد) بين السماء والأرض كل الملائكة يستغفرون لك، ويصلون عليك.
عبد الله: ليست القضية أن يصلي عليه عشرون أو ثلاثون من الناس خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً لا.
كل الملائكة في السماء والأرض يصلون عليه، اسمع: (صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء) حتى ملائكة السماء يصلون عليه، فيأخذها ملك الموت: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط) الله أكبر! وضع في كفن الجنة، وفي حنوط من الجنة، فيصلي عليه ملائكة الأرض والسماء، واسمع الآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقرأ بعض الآيات، منها هذه الآية، قال الله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61].
لعل أهله يبكون، ولعلهم ينوحون، ولعلهم يحزنون، وهو في طربٍ وفي شغفٍ، وفي حب للقاء الله جل وعلا.
اسمع يا عبد الله: وضع في كفن من أكفان الجنة، وحنط من حنوط الجنة (ويخرج منها -أي من جسده- كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا) لحظات فقط، أهله لعلهم لا زالوا يغسلونه، بل لا زالوا يحاولون إخراجه من المستشفى، أو إخراج الجثة من الحادث، أو إزالة الحريق عنها، أو لربما لم يجده أحد بعد، ولم يعثر على جثته أحد، أما روحه وصلت إلى السماء الدنيا، لعله تقطع جسده في معركة من المعارك، بل لربما تقطع الجسد إرباً إرباً، وهو في الجهاد في سبيل الله، أما الروح طيبة طاهرة وصلت إلى السماء الدنيا: (فيقولون: لمن هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن اسمٍ كان ينادى به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له) الله أكبر! السماء الدنيا تفتح له، سماء عظيمة تفتح له، كرامة له (فيشيعه من كل سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها) جنازة تمر في السماء، تعرف من يمر بالجنازة ومن يشيعها؟ أفضل ملائكة في السماء، وأقرب الملائكة إلى الله، يمشون خلف هذه الجنازة، من سماء إلى سماء، تستقبله ملائكة أخرى، أفضل الملائكة في كل سماء تستقبل هذه الروح لتصعد بها إلى السماء التي تليها: (حتى يؤتى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز جل: اكتبوا عبدي في عليين) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19 - 21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى الأرض).
تخيل الروح من السماء السابعة تنزل إلى الأرض، لربما لا زالوا لم يدفنوه، ولربما دفنوه ولا زالوا لم يكملوا دفنه، بل لربما يسلم بعضهم على بعض ويعزي بعضهم بعضاً، فيقال: فلاناً توفي، رحمه الله، لقد كان صالحاً، كانت لا تفوته صلاة الفجر رحمه الله، لم يسمح لابنه بفسادٍ ولا لبنته بمنكر رحمه الله، ما أدخل التلفاز قط في حياته إلى البيت، رحم الله فلان توفي لقد مات في الجهاد في سبيل الله، لقد مات وقد صلى الفجر في جماعة الله، أكبر!