اسمع إلى هذه القصة يرويها أحد الدعاة إلى الله، وكأن الله عز وجل إذا أراد أن يهدي إنساناً يسر له السبل، وفتح له الأبواب، وقذف في قلبه النور، ولعل بعض الناس ينقذهم الله قبل الموت، ولعلك منهم، ولعل هذا المجلس -يا عبد الله- تكتب لك فيه السعادة، وتتخلص فيه من ذنوب أنت أدرى بها.
نعم! أنت تدري ولا يدري أحد سواك إلا الله، أنت أدرى بها، ذنوب في السر ذنوب تخفيها في الخلوة ذنوب تتحدث بها في نفسك والله يعلم {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر:19] يعلم هذه الأعين الخائنة في الصور والجرائد والمجلات والأسواق والتلفاز {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
يقول هذا الداعية إلى الله: مررت في الشارع فرأيت شاباً مع فتاة، فجئت لأنصحهم ولأدعوهم إلى الله -وهذه العبرة ليست فقط للعصاة أو لمن ضعف إيمانهم؛ بل هي أيضاً للصالحين الذين كسلوا في الدعوة وتباطئوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يقول: فلما اقتربتُ، فإذا الفتاة قد هربت، فجئت للشاب، فأخذت أنصحه وأذكره وأعظه نصف ساعة، فلما انتهيت رأيت عيناه تذرفان كم هم الشباب في هذا الزمان من يحتاجون إلى موعظة؟! إلى نصيحة؟! إلى كلمة تخرج من القلب فتفتح القلوب؟! كم وكم يا عبد الله؟! لكن من البخيل؟! ومن المقصر؟! ومن المسئول؟! إذا جاء عند الله عز وجل يوم القيامة! كم وكم؟!
يقول: فلما بكى أعطيته رقم هاتفي، وأخذت رقم هاتفه ثم ذهبت، وبعد أسبوعين تذكرتُه، فاتصلت به في الصباح، فقلت له: فلان، قال: نعم، قلت: هل تذكرتني؟ قال: وكيف أنسى صوتاً كان سبباً لهدايتي؟! قلت: الله أكبر! اهتديت؟ قال: نعم، إنني والله منذ تلك النصيحة وأنا لا أفارق المسجد ولا الصلاة ولا الذكر ولا القرآن، أنقذه الله على يديه، فقلت: سوف أزورك -إن شاء الله- اليوم، فقال لي: متى؟ قلت: بعد صلاة العصر، فصليت العصر ورجعت إلى البيت، فجاءني ضيوف وأخروني عن الموعد، فلما تأخر الموعد وحل الليل، قلت: لا بد أن أزوره حتى ولو تأخرت عنه، فجئته في الليل، فطرقت عليه الباب ففتح الباب رجل كبير في السن، فقلت له: أين فلان؟ فقال: فلان؟ قلت: نعم.
قال: دفناه قبل ساعة، قلت: أنا اليوم كلمته بالهاتف، قال: دفناه قبل ساعة، وأنا أبوه، فقد صلى الظهر ثم جاء إلى البيت لينام، وقال: أيقظوني لصلاة العصر فجئنا لنوقظه؛ فإذا هو قد فارق الدنيا، وقال لي الشيخ الكبير: من أنت؟ فقلت لأبيه: أنا عرفت ابنك قبل أسبوعين، فقال ذلك الشيخ الكبير: دعني أقبل رأسك، قلت: لماذا؟ قال: لأنك أنقذت ابني من النار {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
لا تقل يا عبد الله: غداً، ولا تقل: عندما أرجع إلى البيت، ولا تقل: بعد المحاضرة، الآن وأنت تسمع فلربما يدخل علينا ملك الموت ويقبض هذه الروح وينزعها وأنت لم تتب إلى الله، فأعلنها صادقة من قلبك، وتلفظ بها في قلبك، وقل: رب تبت إليك، لعلك تسألني، وتقول: مم أتوب؟
أقول لك: يا عبد الله! أنت أدرى وأعلم مم تتوب؟ كم وكم هي الذنوب التي نخفيها؟ كم وكم هي المعاصي التي نسرها إن لم تكن معاصٍ فهي تقصير في واجبات صلوات خشوع فيها بر والدين صلة أرحام أمر بمعروف نهي عن منكر هذه واجبات كم وكم قصرنا فيها؟ أعلنها يا عبد الله صريحة، أطلقها من قلبك الآن وتب إلى الله عز وجل.
اسمع إلى هذا الشاب عمل من المعاصي والذنوب في هذه الدنيا نساءٌ عاشَر شرابٌ شَرِب أغاني استمع إلى كل شيء، له في الدنيا كل ما تتصوره فَعَلَه هل شعر بالسعادة؟ لا والله.
هل أحس بالفرح؟ لا.
أتعرف ماذا يقال عنه؟ إنه ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، تعرف لم يا عبد الله؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] والله لو عاشروا كل النساء، وسكنوا القصور، وأخذوا من الأموال الملايين، وسافروا إلى بقاع الدنيا؛ فإن الضيق في صدورهم، وإن الحسرة في قلوبهم، وإن الوحشة يعيشون فيها، ويعيشون بها، ويموتون عليها، يقول: إنه ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، لم يتحمل الألم والضيق فسافر إلى أخيه في بلد آخر، وكان أخوه صالحاً، طرق الباب، فقال له أخوه: سبحان الله! ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي! والله لقد ضاقت علي الدنيا بما رحبت أحس بوحشة وبضيق، قال: تفضل واجلس عندي، فجلس عنده، فلما جاء وقت الفجر جاء رجل صالح ليوقظهم لصلاة الفجر، وكان أخوه صالحاً، قام أخوه للصلاة فجاء الصالح ليوقظ هذا الرجل، فقال له: يا فلان! قم يا فلان! قم يا فلان! قم، قال: سبحان الله! لماذا؟ قال: صلِّ الفجر، قال: ماذا؟ قال: صلِّ الفجر؟ قال: أنا لا أصلي، قال: أعوذ بالله! لا تصلِّ، قم صلِّ، قال: أنا لا أصلي منذ سنوات، قال: اتق الله، جرب الصلاة ولو مرة، قال: اذهب، فذهب الرجل، وجلس يفكر على الفراش (جرب الصلاة ولو مرة) جرب الهداية جرب الالتزام، أنت فعلت كل شيء في الدنيا وما حصلت على السعادة والفرح الذي تريد، وما شعرت بالحلاوة التي تطلب، فقام من الفراش، واغتسل من الجنابة، وذهب إلى المسجد، فصلى، يقول: ولما سجد أحس بسعادة ما شعر بها منذ سنوات {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22] الصدر ينشرح {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
يقول: أحسست بسعادة ما شعرت بها منذ سنوات، ولما رجع إلى أخيه قال: يا أخي! تبت إلى الله رجعت إلى الله، فسافر إلى بلده، فطرق الباب، فإذا أمه تقول له: ما الذي جاء بك؟ لماذا رجعت مسرعاً؟ قال: يا أماه! حصلتُ على السعادة.
قالت: كيف؟ قال: تبت إلى الله رجعت إلى الله، فقامت له أمه وأجلسته عندها، ومكث أياماً، ثم جاء إلى أمه فقال: يا أماه! أريد منك طلباً، قالت: وما هو؟ قال: أريد السفر، قالت: إلى أين؟ قال: للجهاد في سبيل الله، قالت: يا بني! كنت تسافر للمعصية ولم أمنعك، أفأمنعك أن تسافر للطاعة، اذهب يا بني على بركة الله، فسافر للجهاد، وفي أثناء الجهاد، وفي إحدى المعارك إذا بصاحبٍ عنده أصيب بشظية فحمل صاحبه ليسعفه ولينقذه، فإذا بصاحبه يموت بين يديه، فحفر له قبراً والشهيد لا يُغَسَّل ولا يُكَفَّن، إنما يُبعث عند الله، اللون لون الدم، والريح ريح المسك في المحشر، فإذا به يحفر لصاحبه قبراً، ويُنزل صاحبه في القبر، ويرفع يديه فيقول: اللهم إني أسألك ألا تغرب علي شمس هذا اليوم إلا وقد تقبلتني شهيداً في سبيلك، فأنزل صاحبه، فإذا بغارة أخرى، فيذهب للسلاح، وتشتد المعركة، ويحمي الوطيس، فإذا به يصاب، فتذهب نفسه، ويدفن مع صاحبه في ذلك القبر {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].