ومن المصائب -والمصائب جمة- أن يبتلى المرء بصديقٍ له يأمنه، يعرف منه ما لا يعرفه غيره، فيغدره بالسعي إلى عدوٍ له ذي سلطانٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ليذكره عنده بغير الجميل، ويتعرض له بالوقيعة والأذية، ليجاز بجائزة إنما هي لعاعة من الدنيا، طعامٌ أو كساء أو دينار أو إطراء لا بارك الله له فيها، إنما هي بمثلها في جهنم.
روى أبو داود وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلة، فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كُسي برجلٍ مسلمٍ ثوباً، فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجلٍ مسلمٍ مقام سمعةٍ ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة}.
فيا للرزية! وكل هذا في سبيل إشباع البطون! ألا أبعد الله خبزةً أهتك بها ديني، وأخاطر من أجلها بآخرتي، وأعق بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على تاريخي وأمتي، أين من يعقل؟ أين من يعي؟ إن لم تتب:
فلا زلت دوماً في احتياجٍ وفاقةٍ
إلى أن بلغت السن والغاية التي تحس بأن الجعل منك اشمأزت
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما عرج بي مررت على قوم لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
إذا كان هذا فعل عبدٍ بنفسه فمن ذا له من بعد ذلك يُكرم؟
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وأخرج الإمام أحمد وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً فطهرني يا رسول الله! فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شائن، انتفخ بطنه فارتفعت رجله، فقال صلى الله عليه وسلم: أين فلان وفلان؟ قالوا: نحن ذا يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار! قالا: يا رسول الله! غفر الله لك ومن يأكل هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها}
الله أكبر!
الله أكبر لفتةٌ من آيبٍ لاح الطريق له فشمر وانبرى
عبد الله! إن آكل جيفة الحمار مع خبثها وحرمتها لم يؤذ مسلماً، ولم ينتهك عرضاً، ولم تنشغل ذمته بحقوق العباد التي سيسأل عنها يوم القيامة، فهو خيرٌ ممن يأكل لحوم البشر، وفي كلٍ شر:
فاهجر من الكلام ما قد أفعما بالزور والتضليل والبهتانِ
أهل الوقيعة هم خصومك دائما لا يلتقي بمحبةٍ خصمانِ
وكم من حروف تجر الحتوف!
عبد الله! ما الحيوان الذي يأكل لحم أخيه بعد موته؟ الأسد؟ النمر؟ الثعلب؟ لا لا تألفها بل تأنفها، لا يفعلها إلا ذلك الحيوان الذي إذا ولغ في الإناء؛ احتيج إلى غسله لا مرة بل إلى سبع والتراب؛ إنه الكلب، لا يفعلها إلا كلب، وشبه الشيء منجذبٌ إليه:
ألم تقرأ القرآن عمرك مرةً فما لك تعمى عنه في كل مرة
قال الله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
فاسمع إذا حدثت وافـ ـهم كيف عاقبة الأمور
والحروف تجر الحتوف!
واعجباً لمسلم -يا معشر الإخوة- قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، من أين له الفلاح؟! كيف يفلح من ديدنه الطعن في أقوامٍ لعلهم حطوا رحالهم في الجنة منذ سنين؟! ذلكم والله المسكين، قد ذبح بغير سكين:
كم صك آذاناً بجندل لفظه وأطال محنتنا بطول لسانه
ما زال يعلن بيننا عن نفسه حتى استغاث الصم من إعلانه
ألسنةٌ كالسياط، أدبها ودأبها التربص، فالتوثب على الأعراض في اعتراض، أشرفت علينا بقرون الفتنة لتضرب الثقة في قوام الأمة، طبع أصحابها -كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله- طبع خنزير، يمر على الطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ولغ فيه، وقمح، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء ولو في فهمه، وجد بغيته وجعلها فاكهته، ألا بئس المنتجع وبئست الهواية، ويا ويلهم يوم تبلى السرائر يوم القيامة!