أما الضرب بالدفوف، والغناء في الأعراس فإن في هذا ضوابط وحدوداً فاسمعها يا عبد الله:
أولاً: الأصل في المعازف والغناء والموسيقى التحريم، إنما أبيح في حالات محدودة:-
الضرب بالدف، فلا يباح غيره في الأعراس، فلا تباح الموسيقى ولا الطبول ولا غيرها من أنواع المعازف.
ثانياً: إنما الذي يباح له أن يغني في العرس الجواري الصغيرات، كما سمع النبي صلى الله عليه وسلم جارية تغني في يوم عرسه ووليمته.
ثالثاً: إن غنت الصغيرة البالغة فإنه لا يجوز أن يسمعها الرجال، وإن غنت الكبيرة بالدفوف لا غير، وبالكلام الحسن لا الفاحش ولا البذيء، فإنه يكون في مكان لا يسمعها الرجال، إذا كانت المرأة تُنهَى عن الأذان، وتنهى عن رفع الصوت بالصلاة إذا سمعها الرجال، وإذا أخطأ الإمام فلا تسبح، فكيف بالأغاني وسط الأعراس؟! فإنها تُنهى أن ترفع صوتها فيسمعها الرجال.
أما إن كُنَّ صغيرات وليس في أصواتهن فتنة، فإنه يُباح رفع أصواتهن، والضرب بالدفوف، قال عليه الصلاة والسلام عندما زفت عائشة امرأة كانت ترعاها وتكفلها، فلما كبرت زفتها إلى أحد الأنصار، قال لها عليه الصلاة والسلام: (أما كان معكم لهو؟! -أي: شيء من الغناء المباح- فإن الأنصار يعجبهم اللهو، ثم قال لها: أرسلي لها جارية تغني لها -أي: بنتاً صغيرة- قالت عائشة: ما تقول؟ قال: لتقل:
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم
ولولا الحبة السمرا ما كبرت عذاريكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم
)
كلمات ليس فيها فُحش، ولا بذاءة، ولا تغزل بالنساء، ولا وصف لعوراتهن، ولا غيرها من الكلمات البذيئات.
ثم -يا عبد الله- اسمع إلى عرس النبي صلى الله عليه وسلم عندما تزوج إحدى نسائه، فقال لـ أنس: (يا أنس! اذهب فادعُ فلاناً وفلاناً وفلاناً، ومن لقيتَ من المسلمين -فأتت أم سليم وصنعت شيئاً من الطعام المتواضع، ووضَعَته في أناء من نحاس، فأتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذه وليمته- قال لـ أنس: ادعُ فلاناً وفلاناً وفلاناً ومن لقيتَ من المسلمين، قال أنس -وكان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم- فذهبتُ ودعوتُهم، ومن لقيتُ من المسلمين، قال الراوي: كم كان عددهم؟ قال: زهاء الثلاثمائة.
وصل عددهم ثلاثمائة تقريباً، ملئوا بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عنده إلا طعام في إناء واحد من نحاس، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يديه فيه ودعا بالبركة، وقال: ما شاء الله! ثم قال لـ أنس: أخبر الناس ليتحلقوا عشرة عشرة، ثم قال لـ أنس: أعطهم، وقل لهم: ليسموا الله، وليأكلوا مما يليهم، قال أنس: فأعطيناهم الطعام، فأكلوا وشبعوا جمعياً، قال: فقال لي رسول الله: ارفعه يا أنس! فرفعتُه فلا أدري أكان عندما وضعتُه أكثر أم عندما رفعتُه، ولم يأكلوا منه شيئاً، وشبع الناس جمعياً معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، هكذا كانت ولائمه- قال: فأكل الناس، ثم جلسوا وانتظرو عليه الصلاة والسلام حتى يخرج، فجلسوا يتحدثون ويتسامرون، وأعجبهم الجلوس، وامرأته قد أقبلت مختفية خلف الحائط، ووجهُها إليه، يقول: فخرج عليه الصلاة والسلام فرأى الناس جالسين، ثم رجع، ثم خرج، ثم رجع، ولَمْ يُرِدْ أن يخرجهم، وكأنه تضايق منهم، فأنزل الله جل وعلا: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] أي: اخرجوا، وليذهب كل منكم إلى عمله وإلى منزله، فخرج الناس جميعاً.
هكذا كانت وليمته عليه الصلاة والسلام، وهكذا كان التلطف فيها، وهكذا كانت سنته في الولائم.
أقول هذا القول.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.