قال تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] قدم المفعول على الفاعل للاختصاص، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، وكما قال أعرابي لرجل حليم عاقل جلس يسبه ويلعنه، والحليم العاقل هادئ وساكن، فقال له الأعرابي الجاهل: إياك أعني -أي: أنا أقصدك أنت بشخصك، لما وجده لا يرد- قال: وعنك أعرض.
وقوله: (نَعْبُدُ) العبادة كما يقول كثير من أهل العلم: هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه.
وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] الاستعانة هي طلب العون على العبادة، فلماذا قدم العبادة على الاستعانة؟ نقول: معنى كلمة: (نستعين) أي: نطلب منك العون يا رب، فدخول السين والتاء على الفعل تعني الطلب، ومنه: (نستهديك) أي: نطلب هدايتك، (نستغفرك): نطلب مغفرتك.
فمن أهل العلم من قال: إنها من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فالملائكة عطفوا على جبريل، لكن مع الفارق، هذا عطف عام على خاص، وكما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68]، فعطف الرمان الذي هو من الفاكهة على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] ونوح من النبيين، {وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، وكما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء:163]، فهذا وجه من الوجوه.
قالوا: هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص.
والقول الآخر: أن الاصطلاحات في كتاب الله سبحانه وتعالى قد تتسع معانيها أحياناً وتضيق أحياناً، فمثلاً: اصطلاح البر والتقوى، واصطلاح الإثم والعدوان.
فالبر إذا أفرد في السياق دخل في معناه التقوى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فحمل البر معنى التقوى.
لكن إذا جاء (البر) مع كلمة (التقوى) في سياق واحد، فالبر يحمل على أفعال الخير التي تقرب الشخص من الله، والتقوى تحمل على اتقاء المعاصي التي يرد بها الشخص النار -والعياذ بالله-، فالتقوى تحمل على الاتقاء، والبر يحمل على فعل المعروف، هذا إذا اشتركا في سياق واحد.
وكذلك الإثم والعدوان، فالإثم يطلق على الآثام التي يرتكبها الشخص في حق نفسه، أما العدوان فهو التعدي على الآخرين.
كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ولكن إذا جاء الإثم مفرداً دخل في معناه العدوان.
وكذلك العبادة والاستعانة، فأحياناً تأتي العبادة ويراد بها معنى أخص، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، وأحياناً تأتي ويراد بها معنى أعم.
ومن معاني كلمة (عبد) أي: خضع ودان وذل، وتأتي العبادة ومعها المحبة، فعبد الله خاضع لله، وذليل لله مع حبه لله سبحانه وتعالى: فهنا فرق بين العبادة التي تأتي للشخص عن كره، فشخص مثلاً يعبد شخصاً، أي: يخضع له ويذل له ويدين له مع كراهيته، لكن آخر يخضع لشخص ويدين له ويذل له مع محبته، فيقدم أمره فوق كل أمر، ويجعل نهيه مقدماً على كل نهي.
فالعبادة تتضمن محبته سبحانه وتعالى والخضوع له والانقياد.
إذاً: معنى كلمة عبد: خضع ودان وذل، فقولنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: يا رب، نحن نخضع لك، وندين لك، ونتذلل لك، ونقوم بين يديك، ونمتثل أمرك، وننتهي عما نهيتنا عنه، ولا حول لنا عن معاصيك إلا إذا أعنتنا عليها يا رب، فقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: نستعين بك يا رب على عبادتك.
ويتأيد هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فهو خرج من الصلاة لكنه طلب من الله العون على الذكر والشكر وحسن العبادة.
ويدخل في ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88].
ويدخل في هذا أيضاً قول يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
فالشاهد: أننا أعلنا أننا نعبد الله ولا نعبد غيره، ولكن طلبنا عونه سبحانه وتعالى على عبادته، فهنا اتضح وجه الربط بين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فإذا فهم الشخص هذا المعنى لم يغتر بعبادته لربه، فالذي أعانه على العبادة هو الله سبحانه وتعالى، فكما قال رسولنا: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا.
وكما قال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، فإذاً كما قال العلماء: إن عبادتنا لربنا نعمة تحتاج إلى شكر منا لمن أسداها إلينا وهو الله سبحانه وتعالى.
فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كما أسلفنا أن العبادات أحياناً تأتي ومعناها قاصر على أشياء، كما نقول مثلاً: فقه العبادات، ونعني بها فقه الصلاة وفقه الصيام وفقه الزكاة وأبواب الطهارة ونحو ذلك، وأحياناً تأتي عامة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].