ونذكر بأن الحج على ثلاثة أنساك: الإفراد، والقران، والتمتع، وفي كل ذلك لزاماً أن تحرم من الميقات، وميقاتنا أهل مصر إذا مررنا بطريق أهل الشام هو: (الجحفة)، وهي قريبة جداً من (رابغ)، أما إذا نزلنا المدينة أولاً ثم توجهنا إلى مكة، فالميقات حينئذٍ هو: (ذو الحليفة)، فإن كنت مفرداً تقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك حجاً، إذا كنت مفرداً تقول: لبيك حجاً، محلي حيث حبستني، وهذا الاشتراط إن خشيت على نفسك أن تنقطع، فعلى سبيل المثال تخشى أن تفقد جواز سفر، أو تخشى من مرض لا تتم معه الحج، فإذا خشيت من أي عائق فلك أن تشترط، فتقول: اللهم محلي حيث حبستني، وذلك لأنك إذا تحللت من إحرامك بعد اشتراطك لا يلزمك دم من الدماء، بل تتحلل ولا شيء عليك، أما إذا لم تشترط فكما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فإذا لم تشترط وقدر أن فقد منك جواز سفرك وأنت محرم، فحينئذٍ لا يحل لك أن تتحلل من إحرامك إلا بذبيحة تذبحها.
وأين تذبحها؟ من أهل العلم من يقول: تذبحها حيث أحصرت، أي: في المكان الذي انقطعت فيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما صده المشركون ومنعوه من دخول الحرم، وكان عند حدود مكة، ومشارفها، ومكان يقال له الآن: (الشميسي)، وهو: بوابة مكة.
في الحديبية منع الرسول هنالك وحبس من العمرة، وصده المشركون عن بيت الله الحرام، فأمر أصحابه أن يذبحوا ما معهم من الهدي عند هذا المكان، فكاد بعضهم أن يقتل بعضاً من القهر والحزن؛ لأنهم منعوا عن بيت الله الحرام.
فالشاهد: أن جمهور العلماء يقولون: المحصر يذبح ذبيحته في المكان الذي أحصر فيه، ومن العلماء من يقول: إن المحصر يرسل بهديه إلى البيت العتيق، ولا يتحلل من إحرامه إلا بعد أن يتأكد أن الذبيحة قد ذبحت، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، وقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25] أي: ممنوعاً، وهذا مفسر لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فذهب فريق من أهل العلم إلى أن المحرم إذا أحصر لا يتحلل إلا إذا أرسل هدياً وذبح عند المسجد الحرام، والجمهور على أن الذبح يكون في المكان الذي أحصرت فيه، فخشية من الوقوع في هذا الحرج فلتشترط عند إحرامك قائلاً: اللهم محلي حيث حبستني -أي: مكان تحللي في المكان الذي منعت فيه من الحج- ودليل ذلك أن ضباعة بنت الزبير أتت إلى رسول الله فقالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: أخشى من المرض، ألا استطيع المواصلة- قال: حجي واشترطي، قالت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: اللهم محلي حيث حبستني)، فحينئذٍ الإفراد والقران والتمتع يجوز فيها الاشتراط في الحج، ودليله الحديث الذي سمعتم.
وأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كانت لهم تلبيات أخرى إضافة إلى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من كان يقول: لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل، ومنهم من يقول: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، ومنهم من يقول: لبيك إله الحق، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام لزم تلبيته التي سمعتم قبل، ولم ينكر على من زاد عليها، فكان عدم نكيره بمثابة السنة التقريرية لأصحابه على هذا الصنيع.
وإذا كنت قارناً فينبغي أن تكون قد سقت معك الهدي فتقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة في حجة، فتدخل الحجة مع العمرة وتمضي قائلاً: لبيك اللهم لبيك، بصيغ التلبية المذكورة، فإذا وصلت إلى مكة اعتمرت، فتطوف طواف القدوم، وإن شئت -أيها القارن- أن تسعى سعيت، وإن شئت أن تؤجل السعي مع طواف الإفاضة أجلته، فالقارن والمفرد ليس عليهما إلا سعي واحد، إن قدماه أولاً مع طواف القدوم فلا مانع من ذلك، ولا يلزمهم سعي آخر، وإن أخراه فلهم ذلك، أما المتمتع فيأتي ويطوف ويسعى ثم يتحلل، ثم عليه سعي آخر مع طواف الإفاضة، فالمتمتع عليه سعيان وطوافان، أما القارن والمفرد فليس عليهما إلا سعي واحد.
والسعي والطواف ورمي الجمار كل ذلك شعائر؛ جعلت لإقامة ذكر الله، لكن ثم سنن قد تغفل، فمنها: الإكثار من الدعاء على جبلي الصفا والمروة، فهذه سنة مهجورة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الدعاء على الصفا والمروة إطالة شديدة، وكان عليه الصلاة والسلام يطيل الدعاء أيضاً كثيراً كثيراً بعد رمي الجمرة الصغرى وبعد رمي الجمرة الوسطى في أيام التشريق، فقد كان يطيل الدعاء هنالك إطالة شديدة، أما جمرة العقبة فليس بعدها دعاء.