ومنها: الملاطفة في القول وجبر الخاطر: يوجد في شرعنا في تعاملنا مع الناس لكسب قلوبهم ما يسمى بجبر الخاطر، له أدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أدلتها من الكتاب: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فجبر خاطر المطلقة بالمتعة.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] يعني: الفقراء المساكين إذا حضروا تقسيم التركة فلا بأس أن يجبر خاطرهم بشيء من المال.
ومن العلماء من قال: إن خاطر إبراهيم صلى الله عليه وسلم جبر لما لم يؤمن به إلا القليل، فجبر الله خاطره بأن جعل كل الأنبياء الذين جاؤوا من بعده من ذريته عليه السلام، {وَجَعَلَهَا} [الزخرف:28] أي: كلمة التوحيد {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
وجبر خاطر الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم لما سجن واتهم بأن جعله عزيزاً على مصر، فجاء إخوته يقولون كما قال الله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
فاجبر خاطر الناس ولو بكلمة طيبة، فهي في بعض الأحيان تقوم في مقام جبر الخاطر أفضل من آلاف الجنيهات، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قسم الغنائم، أعطى قوماً ضعفاء الإيمان وأكرمهم عليه الصلاة والسلام غاية الكرم، ومنهم عيينة بن حصن أعطاه مائة من الإبل الأقرع بن حابس مائة من الإبل غيرهم وغيرهم من المنافقين أو ضعاف الإيمان، وممن أكرمهم: رجل اسمه عمرو بن تغلب كان جالساً ولم يأخذ من الغنيمة إلا الشيء اليسير جداً إن ذكر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله إني أعطي قوماً وغيرهم أحب إلي منهم، أعطي قوماً وأكل قوماً إلى ما في قلوبهم من إيمان منهم عمرو بن تغلب، فكان عمرو يقول: والله هذه الكلمة لي من رسول الله أحب إليّ من حمر النعم) يعني: إذا أعطي عمرو بن تغلب مليون جمل لا تعدل عنده هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالكلمة الطيبة تجبر الخاطر، أفضل من كثير من المال، ومن ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].
وهذه فضيلة باقية لـ عمرو بن تغلب إلى يوم القيامة، ندارسها نحن وحديثها في البخاري ويدارسها من بعدنا إلى يوم القيامة، وهي شهادة من رسول الله لـ عمرو بن تغلب رضي الله تعالى عنه، فالكلمة الطيبة صدقة كما الرسول صلى الله عليه وسلم، وتؤتي أكلها في الناس بإذن الله، ولكن المهتدي إليها من هداه الله، والله يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] فسل الله أن يهديك لهذه الكلمات الطيبة.
يقول الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، تتكلم بكلام طيب وتتبعه بعمل صالح العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25] وإن كان أكثر العلماء على تفسير الكلمة الطيبة بلا إله إلا الله.
تخرج من اللسان، أصلها ثابت في القلب، وفرعها في السماء، تصعد ثمرتها إلى السماء وتتقبل، وتفتح لها أبواب السماء، لكن مع هذا القول بأنها لا إله إلا الله لا مانع من دخول غيرها معها، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكلمة الطيبة صدقة) والآية عامة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] فلا إله إلا الله أفضل كلمة، ويلتحق بها عموم الكلم الطيب وإن كان دونها في الفضل.
هذه بعض الملاحظات التي نريد أن ننبه عليها، والباب واسع، ولكن كلل أعمالك برحمة العباد والعفو عن الناس.
وتحضرنا واقعة وإن لم يكن إسنادها صحيح ولكن نأخذ منها العبرة: ذكر عدد من المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أن رجلاً من التابعين كان عنده أضياف فأتته جاريته بمرق حار فمن ربكتها سقط منها المرق على الأرض فتغيض عليها سيدها، وقام ليلطمها.
فقالت: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] فسكت، فخشيت بعد ذلك أن يضربها فقالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] حتى تأخذ منه وعداً أنه لا يضربها فيما بعد، فقال: قد عفوت عنك.
فقالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وهكذا كان الناس وقافين عند كتاب الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه القصة نأخذ: فضل الفقه الذي كان سبب نجاة وعتق هذه الأمة رضي الله عنها وعن سيدها.
فجدير بنا معشر الإخوة أن نتخلق بخلق رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن نتبع سنته وأثره.