قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}، المفسرون لهم فيه وجهان: فمن العلماء كالحافظ ابن كثير وشيوخه وتلاميذه وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن بعدهما يقولون: إن القائل في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} هي امرأة العزيز، وقولها: مطرد، فهي تطلب رضا يوسف صلى الله عليه وسلم، فمع أنها تسببت بفتنته، لكنها ما زالت تجله وتوقره وتحرص على إرضائه عليه الصلاة والسلام مع أنه عبد سجين.
وهكذا المرأة أمام من لم يفعل معها الأشياء المحرمة، لكن إن فعل معها شيئاً محرماً، فتود أنها ضربته بعد ذلك بحذائها إن كان قد أجابها إلى طلبها بالمحرم، ولكن العفة والوقار حملتها على طلب رضاه، قالت: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ولم أشهد عليه شهادة زور في غيابه، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52]، أي: لا يوفق الله الخونة أبداً، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أي: لأني بشر، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]، كل ذلك على لسان المرأة التي اعترفت بعجزها وضعفها على رءوس الأشهاد، هذا قول الحافظ ابن كثير في طائفة كبيرة من المفسرين.
وطائفة أخرى من المفسرين قالوا: إن القائل لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف:52] هو يوسف عليه السلام، وقال ما بعد ذلك أيضاً، فيكون وجه التأويل على النحو التالي: قالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51]، وبعد ذلك تكلم يوسف لما بلغه قولها، فقال: ((ذلك)) أي: هذا الطلب مني لا لفضيحة المرأة، فأنا لا أحب أن أفضح أحداً، ولكن ليعلم زوجها أني لم أخنه بالغيب، أي: وقد وكلني ببيته وخلَّى بيني وبين امرأته، بعد أن أكرم مثواي وأنزلني منازل طيبة، فطلبت هذا البيان، لا لأفضح النساء فليس من شأني فضيحتهن أبداً، وليس من شأني فضيحة من اتهموني وقذفوني، فهذا ليس لي بسبيل، إنما إن فضحوني سترت عليهم، ولكن ليعلم زوجها أني لم أخنه بالغيب، فالله لا يهدي ولا يوفق الخائنين، وأيضاً أنا نفسي بشر فلا أبرئ نفسي من المعاصي ولا أزكيها.
فهذا حق لحق نفسه عليه الصلاة والسلام، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أي: لا أنزهها عن الخطأ والقصور: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
هكذا البيان وهكذا الأدب، فسمع الملك هذه المقالات التي لا تخرج إلا من مشكاة النبوة، وسمع الملك كذلك اعترافات من النسوة، واعترافات من المرأة بلا ضرب ولا أذى، لقد سمع مقالات يوسف وهي في غاية الحسن والبهاء والجمال التي لا تصدر إلا من الأنبياء ومن سلك مسالكهم، فللأنبياء أقوال تعرف بهم ويعرفون بها، كما قال العلماء رحمهم الله في شأن الحسن البصري رحمه الله، فقد قال علي بن الحسين -الملقب بـ زين العابدين - وقد ذكر عنده الحسن البصري: ذاك الرجل الذي كلامه يشبه كلام الأنبياء.
فللأنبياء سمتٌ وللأنبياء حديث، ولألفاظهم حلاوة، وعلى كلامهم طلاوة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد قال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، هكذا قال ربنا، فسمع الملك هذه المقالات، ولأول مرة يطرق سمعه مثل هذا القول الطيب الجميل! فحينئذ قال الملك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} لا للمجيء به فقط، بل قال: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54]، أجعله خالصاً لنفسي مستشاراً لي، أستشيره في كل أموري، هكذا تتبدل الأحوال.
قال الفضيل بن عياض -ولعله تلقى ذلك من الإسرائيليات-: إن الملك لما قال: ((ائْتُونِي بِهِ))، فإن امرأة العزيز رافقت العزيز حتى تشاهد الموكب الذي خرج به يوسف من السجن، فقالت عندما نظرت إلى حالها: سبحان من جعل العبيد ملوكاً لطاعته، وسبحان من جعل الملوك عبيداً لمعصيته.
قال تعالى: ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ)) فالملك يسمع عن يوسف ويسمع كلامه عن بعد، فهو لم ير إلى الآن يوسف، ولكن لما جاء يوسف، وكلمه الملك ورآه ورأى علامات الجمال تكسوها علامات الوقار، رأى الحسن قد كمل بالنبوة والرسالة، فرأى أمراً لم يره لما كلمه، وكما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (ليس الخبر كالمعاينة)، إذا سمعت بجمال شخص، فإنه يختلف الأمر إذا شاهدته، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة).
والحمد لله رب العالمين.