غنم يوسف عليه الصلاة والسلام من الحسنات ما غنم، ثم أراد الله نجاته، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43]، فالله سبحانه وتعالى أرى الملك هذه الرؤيا لحكمة، فالذي يدبر الأمر هو الله، وهذا يستفاد منه أن الفرج يأتي من حيث لا تحتسب، فإن رؤيا رآها شخص في منامه كانت سبباً في تفريج كرب شخص وهو لا يشعر.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:43]، سبع بقرات سمان وفي جوارها سبع بقرات ضعاف هزال نحاف، فإذا بالسبع الضعاف النحاف يأكلن السبع السمان، فهذا أمر على غير المعتاد، فالمفترض أن البقرة السمينة هي التي تعتدي على الضعيفة الهزيلة، ولكن الأمر على غير ذلك، فلفت نظر الملك ذلك، قال تعالى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}، قال بعض أهل اللغة، الأصل: أن السبع الآكلة هي التي تتقدم بالذكر: إني رأيت سبع بقرات هازلة تأكل سبعاً سمينة، لكن قدمت السبع السمان لعلة فهم منها ما فهم يوسف عليه الصلاة السلام.
{إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:43]: هذه رؤيا غريبة من الملك استحوذت على قلبه وعقله وكل فكره، وكونها تستحوذ على قلبه وعقله وكل فكره فهذا من الله، فقد نرى رؤيا وتمر مروراً عابراً، لكن هذه رؤيا عظمها ربنا سبحانه عظمها وعظم شأنها عند هذا الملك، فلم يهدأ للملك بالٌ ولم يستقر له حال حتى يقف على أمر هذه الرؤيا، فقال للملأ: (يا أيها الملأ) أي: يا أيها الأشراف يا رجال الدولة يا أيها السادة يا أهل الرأي والمشورة {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43].
فقالوا مقولة أهل الجهل، فالجاهل دائماً يتلقن تحت أي ستار.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [يوسف:44]، وكان من اللائق أن يقولوا: الله أعلم.
وأن يكلوا العلم إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يضربوا سريعاً بالغيب ويقولوا: أضغاث أحلام، وقد قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (الرؤيا على ثلاثة أنحاء: حديث للنفس، ورؤيا من الله، وحلم من الشيطان يخوف الله به أولياءه، أو تهاويل وتخاويف من الشياطين).
قالوا أضغاث أحلام، أي: أغلاط، وليست من الرؤيا الحقة في شيء، فلا تقف عندها ولا تفكر فيها.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:44 - 45]، أي: أنه تذكر يوسف صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي فسر له الرؤيا التي فيها نجا.
قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] المفهوم من السياق: أنهم آكدوا له في الذهاب إلى يوسف، فدخل قائلاً مثنياً على يوسف عليه السلام: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}: وفيه جواز الثناء على الأشخاص بما هو فيهم، إذا لم يكن يقطع الثناء أعناقهم.
((يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)) أي: يا كثير الصدق، {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف:46].
فتكلم يوسف مفسراً الرؤيا مباشرة ولم يعاتب هذا السجين بقوله: لمَ لم تذكرني عند ربك؟ لأنه نبيٌ يعرف أن الأمور مقدرة، فلم يقف وقفات طويلة ينتقم بها من السجين، ولم يطلب أجراً لتعبير الرؤيا فهو نبيٌ كريم عليه الصلاة والسلام! ولم يطلب خروجاً من السجن أيضاً، وقال: أنا أذهب إلى الملك فأعبر الرؤيا أمامه بنفسي، كلا وحاشاه عليه الصلاة والسلام، ولم يدعه مرة ثانية إلى التوحيد بعد أن دعاه وفصل فيه من قبل، فهذه الدعوة حينئذٍ قد تكون بمقابل، فقد قدم من النصح ما فيه كفاية من قبل.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي: متتابعة متواصلة تثمر فيها أرضكم، ثم أرشدهم إلى العلاج بلا طلب منهم، قال لهم: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} هذا ليس من تأويل الرؤيا، إنما هو علم زائدٌ أفادهم به يوسف صلى الله عليه وسلم.
قوله: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47]، ليس من الرؤيا، إنما هو من التدبير والوقاية، فكما يقول أهل العلم وأهل الأصول: فيه جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل إذا كان ينتفع بالجواب، وأخذ العلماء ذلك من مجيء فاطمة بنت قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تستشيره فقالت: (يا رسول الله! إن معاوية وأبا جهم خطباني فأيهما أتزوج؟ قال عليه الصلاة والسلام: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة بن زيد) وهناك أدلة متعددة على جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل إذا كان فيه نفع للسائل وليس فيه ضرر على أحد.
فقال يوسف: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف:47]، هذه هي السبع السنوات الخصاب التي هي السبع البقر السمان، {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47]، أخذ العلماء من هذه الآية طريقة من طرق الادخار، وهي إبقاء الحب في السنبل ليبقى سنوات طويلة، فالحصاد يبقى سنوات متعددة إذا بقي الحب في السنبل.
قال تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47]، أي: اتركوه في سنبله ولا تحصدوه.
قال تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} أي: إلا على قدر الحاجة للطعام فقط، والباقي تبقون عليه في السنبل.
قال تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف:48]، وهن السبع العجاف، {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي: يأكلن المدخر كله.
{إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48]، (مما تحصنون) أي: مما تدخرون للبذر في الأرض مرة ثانية.
ثم أضافهم يوسف علماً ليس بالرؤيا، فقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف:49]، فهذا لم يره الملك في رؤياه، وإنما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأى سبع سنبلات خضر وآخر يابسات، ولم ير العام الذي فيه يغاث الناس، لكن فهم يوسف عليه السلام أن بعد السبع العجاف فرج ورخاء بما علمه الله، فقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} أي: يأتيهم الغيث واسعاً كثيراً، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49]، لدرجة أن العنب يثمر ثمراً زائداً، ويبدأ الناس في عصره لصنع الخمر مرة ثانية، فكان الخمر مباحاً آنذاك، بل كان الخمر مباحاً في صدر الإسلام إلى أن نزل تحريم الخمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد امتن الله بذلك على هذه الأمة في صدر الإسلام، فقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، إلى أن نسخ هذا الحكم.