أما النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وردت بتحريمها فهي فوق الحصر وفوق العد، فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
وورد حديث -وإن كان في إسناده مقال- في قصة ماعز الأسلمي رضي الله تعالى عنه، ارتكب فاحشة الزنا، فأرقت عليه مضجعه، وأقلقت باله ولم يهدأ له بال، ولم يستقر له قرار، فأزعجته أيما ازعاج! وكيف لا تزعجه هذه الجريمة والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر: (أنه رأى أقواماً عراة رجالاً ونساءً في متن تنور، يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم فيسمع لهم ضوضاء، فسأل: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك يا محمد!).
كيف لا ينزعج والله يقول: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) [الفرقان:68 - 70] الآيات.
انزعج ماعز غاية الانزعاج من هذه الكبيرة التي ارتكبها، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (طهرني يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه إلى اليمين، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل يمينه، وقال: طهرني يا رسول الله! فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى اليسار، فتدارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآتاه من قبل اليسار، قال: طهرني يا رسول الله! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لعلك قبّلت، قال: لا يا رسول الله! قال: لعلك فاخذت، قال: لا يا رسول الله! ثم قال: إنه يعرف الزنا، وإنه قد زنى، فقال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟ قال: لا، يا رسول الله! ليس بي جنون، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم) إمضاء لأمر الله سبحانه، وإقامة لحد من حدود الله رجم ماعز، فقال رجل من جلساء النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب له: عجبت من هذا الرجل الذي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول يرده مرة بعد مرة، فلم يرض إلا أن رجم كما يرجم الكلب، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت، ثم مر بهذين الرجلين على حمار شائل، أي: ميت قد انتفخ، وخرجت منه رائحة في غاية الخبث لا تطاق، فمر النبي صلى الله عليه وسلم مع هذين الرجلين وقال لهما: (انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالا: نأكل من هذه الجيفة يا رسول الله؟! قال: والذي نفسي بيده! للذي نلتما من أخيكما أشد نتناً من هذه الريح، إنه والله الآن ينغمس في أنهار الجنة).
وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه جالساً يوماً مع بعض أصحابه، فهاجت ريح نتنة، فقال لأصحابه: (أتدرون ما هذه الريح؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذه ريح الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم).
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (مررت ليلة عرج بي بأقوام لهم أظفار من نحاس، يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم).
وقال صلوات الله وسلامه عليه كذلك: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله ولو في قعر بيته).
وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم).
وقال صلوات الله وسلامه عليه: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).
هذه بعض النصوص الواردة في ذم الغيبة، وقال عليه الصلاة والسلام، في النميمة عندما مر بقبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -أي: ما يعذبان في كبير في أنظاركم- ثم قال: بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
وفي كتاب ربنا: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] (هماز) يعني: يعيب الناس.
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] وهو الطعان العياب الذي يطعن في الناس ويعيب في الناس، هذه بعض النصوص ثم كم هائل منها يفيد تحريم هذا الداء المقيت.
وقد نقل فريق من أهل العلم كالحافظ ابن كثير رحمه الله، والحافظ ابن حجر رحمه الله، وكذلك ابن حزم رحمه الله، الإجماع على تحريمها.
أما القرطبي رحمه الله فنقل الإجماع على أنها كبيرة، وإن كان في نقله للإجماع نظر إلا أن أكثر أهل العلم على أن الغيبة من الكبائر، ولذلك ذكرها العلماء الذين صنفوا في الكبائر، وذلك للوعيد الشديد الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المغتابين.