اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن؛ قولك حق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق.
ثم أما بعد: فمحاضرتنا في الحقوق الأسرية، فللزوج حق وللزوجة حق وللابن حق، ويجب أن يعطى كل ذي حقه كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: (إن لزوجك عليك حقاً، وإن لولدك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً)، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26].
فجدير بكل منا أن يعرف ما له وما عليه في بيته، فما منا إلا أب أو ابن أو أخ أو أخت أو زوجة أو زوج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، فكل ينبغي أن يعرف ما له وما عليه في البنية الأسرية.
أولاً: بالنسبة للزوج أو للأب فهو القيم في البيت، وهذا المنصب نصبه الله سبحانه وتعالى فيه، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته).
فالقيم في البيت هو الرجل وهو الزوج، فله حقوق من أعظمها بل أولاها وأولها حق السمع والطاعة في البيت، فلابد أن يسمع أهل البيت وأن يطيعوا للزوج، وذلك في طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فطاعة الأبوين من طاعة الله سبحانه ومن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من البر بالوالدين، فقد أمر الله بذلك في كتابه الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة لوقتها.
قيل: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين)، وتعددت الآيات التي تثبت هذا المعنى، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، والآيات في هذا الباب في غاية الكثرة ولا تخفى عليكم، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فمن حق الأب في البيت أن يسمع له ويطاع، ولكن السمع والطاعة هذه مقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر الأب أو أمرت الأم بمعصية الله سبحانه وتعالى فلا سمع لهما حينئذٍ ولا طاعة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]، ويقول الله سبحانه: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29]، وقال سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال سبحانه في شأن الأب الكافر: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].
إذا أمر الأب أو أمرت الأم بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة لهما حينئذٍ، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إنما الطاعة في المعروف)، وجاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن ابنتي تمرق شعرها وإن زوجها يستحثني على الدخول بها، أفأصل شعرها يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لعن الموصلات) أي: اللواتي يصلن شعورهن بشعور أخرى، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: (لعن الله الواصلة والمستوصلة)، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأم من وصل شعر ابنتها وإن طلب الزوج منها ذلك.
ولكن مع معصية الأبوين في دعوتهما إلى الحرام ينبغي بل ويجب أن يصاحبا بالمعروف كذلك، فإن الله يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فمع عدم الطاعة هناك مصاحبة بالمعروف كذلك.
وفي هذا المعنى يقول الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وسلام عليك هنا معناها: أمان عليك مني، فلن أتعرض لك بأذىً ولن أمسك بسوء، فأنت أب وأنت والد وإن كنت مشركاً.
وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المتقون، ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها) أي: لهم رحم سأصلها بصلتها، أي: لهم حق الصلة.
وفي هذا أيضاً قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
وفي هذا قصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، فقد جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: (يا رسول الله! إن أمي أتتني وهي راغبة -وهي مشركة- أفأصل أمي يا رسول الله؟! قال: صلي أمك) فالأب وإن كان مشركاً والأم وإن كانت مشركة لهما حق البر والصلة {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15]، فلا يطاعان في ذلك، ومع هذا لا تقطع صلتهما، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، إن أرسلاك إلى مكان سوء مثلاً فلا يطاعان، وذلك استنباطاً من حديث الساحر والراهب مع الغلام، فكان أهل الغلام يرسلونه إلى الساحر فيختلف إلى عابد فيستمع منه، ثم يرجع إلى أهله فيقول لهم: حبسني الساحر.
وإذا تأخر على الساحر وأتاه قال: حبسني أهلي، فإذا أرسل إلى مكان فيه شر أو سوء فلا يستمع إلى الأبوين ولا يطعهما في معصية الله سبحانه وتعالى.