إننا الآن -يا إخواني- في منعطف خطير، يجب علينا أن نجرد فيه دعوتنا إلى الله، وأن نجرد فيه أعمالنا لله، أن نجرد أقوالنا وأفعالنا له جل جلاله، وأن نبتغي بدعوتنا وقولنا وعملنا وفعلنا وجه الله سبحانه.
ورد في الحديث الطويل الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استشفع لم يشفع له، وإن استأذن لم يؤذن له)، رجل مطموس، لا يزعجه أين مكانته بين الدعاة إلى الله، هل هو في الصدارة بين صفوف القادة، أم في المؤخرة بين صفوف الجند، ما دام على طول الطريق يعمل لله جل وعلا لا يزعجه أن يشير إليه الإعلاميون والصحفيون أو لا يشيروا، لأنه لا يريد طبلاً أو مزماراً إعلامياً أو سياسياً، إنما يريد أن يرضي ربه جل وعلا، في سبيل الله لا يبتغي إلا رضاه.
واعلم أن من أوائل من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة لماذا؟ لأنه لم يبتغ بعلمه أو قراءته وجه الله، هؤلاء هم أهل الرياء والكذب، وإن زوروا في الدنيا أنهم يعملون من أجل الله، إلا أن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، انظروا إلى هذا الدرس من دروس التجرد لله، لأنني أعلم علماً يقيناً أن الله لن ينصر الأمة إلا بمثل هذه القلوب المتجردة، التي تخلص عملها ودعوتها لله جل وعلا.
لما ولى الصديق -أيها الأخيار الكرام- خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، على أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح -انتبه ماذا قال الصديق لـ أبي عبيدة - أرسل له رسالة ليقول له فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خليفة رسول الله إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة على بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله ما وليته القيادة إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خيرٌ منه، لكنه في الموطن المناسب هو رجل ساعة، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام] انظروا إلى التجرد، وانظروا إلى العمل لوجه الله سبحانه وتعالى.
يا إخوة: ينبغي ألا يزعجنا من سيرفع الراية إن كانت الراية سترفع، ينبغي ألا نخاف على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت ستقال، يرفع الراية أبو عبيدة فلترفع، وليقف خالد إلى جانبه ليعينه إن كلَّ أو مل، يقول الحق أبو عبيدة فليقل، نريد إخلاصاً لله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] وأنت عندي خير منه، لكنه في الموطن المناسب هو رجل ساعة، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
انظر إلى عظمة أبي عبيدة، هل قال أبو عبيدة: لن أطيع أمر الخليفة ومعي الجيش، وإنما تنازل على الفور عن القيادة، ليصبح أبو عبيدة جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً، وانظر إلى عظمة خالد هو الآخر، يتلقى الأمر من خليفة رسول الله فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة ليقول فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمين أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام، والقيام على جندها، والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك وما أردته -والله ما أردت هذا ولكنه الإخلاص لله، إنه التجرد- فأنت في موضعك الذي أنت فيه يا أبا عبيدة لا نقطع أمراً دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام].