ولو نظرت إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت تطبيقاً عملياً رائعاً لهذا الأصل العقدي الكبير، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء: صور مشرقة في دنيا الواقع.
أيها الأفاضل! إن من أعظم صور الموالاة والمعاداة، ومن أنصع صور الحب في الله والبغض في الله، ما سطره الأنصار الأبرار الأطهار الأخيار، الذين فتحوا القلوب والأعين للمهاجرين، قبل أن يفتحوا البيوت والدور، وزكاهم الله تبارك وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
أيها الأفاضل! لقد فتح الأنصار القلوب فحل فيها المهاجرون، بل لقد قاسم الأنصاري المهاجر كل شيء، أو شاركه في كل شيء، وتنازل له عن أي شيء، ومن أجمل ما ثبت في هذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد الأنصاري: لـ عبد الرحمن المهاجري يا عبد الرحمن! أنا أكثر الأنصار مالاً، فسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي أمرأتان (زوجتان) فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها! فقال عبد الرحمن بن عوف العفيف: بارك الله في أهلك وأموالك، ولكن دلني على السوق).
والسؤال المرير: أين من يعطي الآن عطاء سعد؟!
و صلى الله عليه وسلم وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟! فلقد مضى سعد مع عبد الرحمن، ووجد سعد يوم كان هنالك عبد الرحمن، فهذه صورة من أنصع صور الولاء، ومن أحلى صور الحب في الله، والبغض في الله.
وها هو المغيرة بن شعبة، يأتي عروة بن مسعود وهو عم المغيرة ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فوقف المغيرة بن شعبة ليظلل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس من الحر، وهو آخذ بالسيف ينظر إلى عروة، وعروة بن مسعود يكلم ويفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويمد يده أحياناً ليداعب شعرات من لحية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا جرياً على عادة العرب في التودد والتخرص، عروة يمد يديه؛ ليأخذ شعرة من شعرات النبي برفق وود، فضربه المغيرة بنصل السيف ضربة على ظهر يده -وهو عمه- وهو يقول: أخر يدك عن لحية رسول الله قبل أن لا تصل إليك يدك، أي حب وأي ولاء هذا؟! وهذا عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، عبد الله إمام في التوحيد، وأبوه رأس النفاق، ولله في خلقه شئون! والحديث رواه ابن جرير بسند صحيح، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رأس النفاق عبد الله بن سلول يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يقصد أنه سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذليلاً من المدينة، فقال عبد الله: صدق أبي يا رسول الله فأنت الأعز وهو الأذل، والله ما عرفت المدينة رجلاً أبر بأبيه مني، ولكنه بعد ما قال ما قال فلتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله! وأخذ عبد الله السيف وانطلق إلى الطريق، ووقف في طريق أبيه، فلما أقبل رأس النفاق ابن سلول ليدخل بيته اعترضه ولده عبد الله فقال له أبوه: ماذا تفعل يا بني؟! فقال له ولده: والله لا يؤويك ظلها -يعني: المدينة- ولن تبيت الليلة في دارك إلا بإذن من الله ورسوله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل! فصرخ رأس النفاق يا أهل الخزرج! ابني يمنعني داري! فانطلق رجل من الصحابة إلى الرحمة المهداة، والنعمة المسجاة، وصاحب الخلق الفياض بالأدب والجود والكرم، فأخبره بما كان من عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: اذهب إلى عبد الله وقل له: يقول لك رسول الله: خله ومسكنه، يعني: دعه يدخل داره، فلما جاء الرجل بالأمر من قبل الحبيب، التفت الولد إلى والده وقال: فلتدخل الآن لتعلم من الأعز ومن الأذل! {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، هذه هي الموالاة في أنصع صورها، وهذه هي المعاداة في أقوى وأوضح معانيها على وجه الأرض، بهذه العقيدة، وبهذه القلوب، استطاع حبيب القلوب أن يقيم للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.