فيوم أن أمرت الأمة -إلا من رحم ربك- بالمنكر، ونهت عن المعروف، وتركت لواء الإيمان بالله جل وعلا سقطت من هذه القمة، وانحطت إلى هذه المكانة من الخزي والذل والهوان والعار، ولا رفعة لها إلا إذا حققت الخيرية من جديد؛ فآمنت بالله؛ وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر.
ونرى أن الله قد زكى الأمة في القرآن بالوسطية، والوسط كما في رواية البخاري هو العدل، كما قال الحبيب.
ولكن الأمة أيها الأحباب الكرام! قد حادت عن المنهج الوسط، وراحت تدور في فلك الشرق الملحد تارة، وتدور في فلك الغرب الكافر تارة أخرى، وتركت منهج الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وذهبت تجوب في بوتقة المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى! وزكى الله الأمة في القرآن أيضاً بالوحدة، فقال جل وعلا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
ولكننا نرى الأمة الآن قد تمزقت إلى أجزاء، بل وتفتت الأجزاء هي الأخرى إلى أجزاء، وهذا يوم أن زال ظل الخلافة عن هذه الأمة، ودق الاستعمار اللعين هذا المسمار الخبيث، ألا وهو مسمار الحدود بين البلاد الإسلامية، فراحت البلاد تتناحر وتتطاحن من حين لآخر على هذه الحدود التي وضعها المستعمر اللعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومما يزيد الأسى والألم في قلوب الشباب والأخوات أنهم -وهم ينظرون حتى إلى الأمة من منظور مادي علمي بحت- يرون الأمة في مؤخرة الركب المادي والحضاري ببعيد، بل وإذا نظروا إلى الأمة وجدوا أن أمماً كثيرة غارقة في الكفر وأوحال الشرك والضلال، لكن هذه الأمم سادت، يرون هذه الأمم قد قادت، ويرون هذه الأمم قد قدمت للبشرية اليوم تقدماً علمياً رائعاً؛ فحولت العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات، ويرون الأمة الموحدة تأتي وراء الركب ببعيد، حتى في ظل هذه النظرة العلمية المادية البحتة.
وهنا كثير من الإخوة وكثير من الأحباب سيسأل: ما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ وما الذي غير الأمة إلى هذه الحالة المزرية؟ وما الذي بدل عزتها إلى ذل؟ وما الذي بدل علمها إلى جهل؟ وما الذي بدل قوتها إلى ضعف؟ وما الذي حدث لأمة دستورها القرآن، ونبيها محمد عليه الصلاة والسلام، وربها وإلهها هو الرحيم الرحمن جل وعلا؟ إننا نرى الأمة الآن تتسول على موائد الفكر المادي والعلمي الحضاري والإنساني من منظور المادة، ونراها تتسول على موائد هذا الفكر العلمي والإنساني وهي التي كانت بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين الذين أحرقهم حر الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، والآن نرى الأمة تتأرجح في سيرها، بل ولا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسير فيه، كل هذا بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب هي الدليل الخريت في الدروب المتشابكة وفي الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون.
فما الذي جرى أيها الأحبة؟! والجواب في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل وعلا، هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ورب الكعبة لقد غيرت الأمة وبدلت، في جانب العقيدة غيرت، وفي جانب التشريع بدلت، وفي جانب الأخلاق انحرفت، وفي جانب السلوك المعاملات ضلت، وهذا في الجملة، إلا من رحم ربك من بين أفرادها، نسأل الله أن يجعلنا ممن رحم.
فهذه النتيجة التي تحياها أمتنا يا شباب الإسلام! وهي نتيجة عادلة؛ لأن الأمة قد تنحت عن أصل عزها ورفع شرفها.
إذاً: إن رأيت المسلمين هنا أو هنالك تكال لهم الضربات، وتسفك دماؤهم، وتمزق أشلاؤهم، وتنتهك أعراضهم، وتسلب مقدساتهم؛ فعليك أن تزداد يقيناً بكلام ربك وكلام نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، فلن ينصر الله جل وعلا إلا من نصر دينه، ولن يعز الله جل وعلا إلا من أعز شريعته، ولن يستخلف الله جل وعلا في الأرض إلا من وحده وأخلص العبادة له، وإن شئت أن تعلم ذلك فاسمع لقول ربك جل وعلا: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] , واسمع لقول ربك جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] الآية، واسمع لقول ربك جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
إذاً: أيها الأحبة الكرام! هذا الواقع الذي تعيشه الأمة إنما هو نتيجة عادلة لبعد الأمة عن منهج ربها وشريعة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أيها الأطهار! أود أن نفرق جميعاً بين الإسلام وبين المسلمين؛ فإن الإسلام دين الله، ودين الله باقٍ خالد، والمسلم الذي ذاق طعم الإيمان وذاق مع هذا الإيمان حلاوة الوعد بنصر الله، يعلم يقيناً لا شك فيه البتة أن الباطل مهما انتفخ وانتفش في فترة من الفترات فإنه غير غالب، وأن الحق مهما انزوى وضعف في فترة من الفترات فإنه غير مغلوب، فالمؤمن الصادق يعلم علم اليقين هذه الحقيقة الكونية الثابتة التي قررها الله بذاته وأكدها بنفسه جل وعلا في قوله في سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].