الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم

الله جل وعلا خلق الناس جميعاً وفطرتهم على توحيده وعبادته كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، وانظروا إلى دقة الكلمات القرآنية! يقول صاحب (معارج القبول) في تعليقه على هذه الآية: لم يقل الله جل وعلا: وإذ أخذ ربك من آدم، وإنما قال: من بني ولم يقل ربنا: من ظهره، بل قال: (مِنْ ظُهُورِهِمْ)، ولم يقل: ذريته، بل قال: (ذُرِّيَّتَهُمْ) {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].

جمع الله الأرواح في عالم يسمى بعالم الذر، وأشهد الله الأرواح على أن له الوحدانية والجلال والكمال، فشهدت كل نسمة وكل روح ستدب على ظهر الأرض إلى أن يرثها الله جل وعلا لله بالوحدانية والكمال، خلقها الله واستنطقها فنطقت، وقال لها: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي: ألست بربكم الذي خلقكم؟ ألست بربكم الذي يرزقكم؟ ألست بربكم الذي يرعاكم ويتولاكم؟ ألست بربكم الذي يوفقكم لما فيه الخير؟ ألست بربكم الذي خلق السماوات والأرض؟ ألست بربكم الذي رفع السماء بغير عمد وبسط الأرض؟ ألست بربكم الذي أنزل إليكم الكتب؟ ألست بربكم الذي بعث إليكم الرسل؟ فشهد الجميع لله بالكمال والجلال وقالوا: (بَلَى شَهِدْنَا) أي: شهدنا لله بالوحدانية، وشهدنا لله بالكمال والجلال، فذكرهم الله جل وعلا بهذا الميثاق الأول الذي نسيه كثير من المسلمين، ذكرهم الله وهو يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فهو الذي يعلم ما كان، وما قد كان، وما هو كائن، وما سيكون، قال جل وعلا: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وأنطقنا بالتوحيد والكمال في عالم الذر، ثم خلقنا الله جل وعلا وأنشأنا في بيت مسلم يدعو الله ويوحده عز وجل، فهذا فضل الله أولاً وآخراً، وابتداءً وانتهاءً.

ولكن لا تظن أن الأمر يقف عند هذا الحد، فكم من مسلم نشأ في بيت مسلم، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولكن الله جل وعلا قد ختم له بالكفر، والعياذ بالله! فكم من كافر وكم من عاصٍ وكم من مذنب عاش طوال حياته على المعصية، وعاش طوال حياته على الفسق والفجور، ولكن الله جل وعلا بفضل منه ورحمة ختم له عند موته بـ (لا إله إلا الله) فكان من أهل الجنان! فيا أيها المغرور يا أيها المخدوع بعلمه! يا أيها المخدوع بطاعته! يا أيها المخدوع بصلاته! يا أيها المخدوع بعدد حججه! يا أيها المخدوع بالطاعات! انتبه واحذر! فوالله الذي لا إله غيره! إن الخوف من سوء الخاتمة مزق قلوب الأنبياء والمرسلين، ومزق قلوب الأتقياء والعارفين، فلا تظنوا أن الأمر يسير أو هين، فكم من مسلم شهد لله بالوحدانية ولكنه مات على غير الإسلام وخرج من الدنيا على غير الإيمان! وكم من مسلم عاش طوال حياته على فسق وضلال وختم الله جل وعلا له بالتوحيد والإيمان، فنطق عند موته بـ (لا إله إلا الله) فكان من أهل الجنان!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015