الله سبحانه وتعالى حدد لنا الطريق، وأخبرنا بحقيقة يغفل عنها الناس في وسط طغيان الشهوات والماديات، وهذه الحقيقة حقيقة تسربل بها طوعاً وكرهاً البغاة، والمتألهون، والظالمون، والمتكبرون، والمتجبرون، بل والأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة الكبرى، إنها قضية كلية من قضايا الكون الكلية، ألا وهي حقيقة الموت.
إن الموت -أيها الأحبة في الله- لا بد أن نذكره دوماً وألا ننساه؛ لأن من ذكر الموت عجل التوبة، والتزم بالقناعة والرضا، وعلم حقيقة هذه الحياة، فقد طغت الماديات والشهوات على قلوب كثير من الناس، لما ذكر الله جل وعلا الموت في القرآن ذكره بلفظة الحق؛ لأنه حق لا مراء فيه، وصدق لا كذب فيه، ولا باطل معه، يقول الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]، انتبهوا إلى دقة هذه الكلمات! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أنك تموت، والله حي لا يموت.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أن يكون قبرك روضةً من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، (تحيد) أي: تهرب وتفر وتجري! تحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، وتحيد إلى الطبيب إذا أحسست بالمرض، ثم ماذا بعد كل هذا؟ يا أيها القوي الفتي! يا أيها الذكي! يا أيها العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الحاكم والوزير! بل ويا أيها الوضيع! بل ويا أيها الحقير! استمعوا جميعاً (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) فوالله الذي لا إله غيره! إن كل باك سيبكى! أنت اليوم تبكي على إخوانك وخلانك وأحبابك الذين يموتون، وغداً سوف يُبكى عليك أيها المسكين! كل باك سيبكى، وكل موجود سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى.
إنها حقيقة مرة والله الذي لا إله غيره وكثير من المسلمين غفل عنها، ولا تظن أن ذكرى الموت هو أن نقول: إننا كنا الليلة أو اليوم نشيع جنازة فلان أو فلانة، كلا! بل إن ذكرى الموت -أيها الأحبة في الله- هو أن نستعد دوماً وأبداً لهذا اللقاء، في معجم الطبراني: (أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله! من أكيس الناس وأعزم الناس؟ -أي: من أرجح الناس عقلاً، وأكثر الناس فطنة وذكاءً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكثرهم ذكراً للموت) ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة أيها الأحباب! بل قال: (أكثرهم ذكراً للموت، وأكثرهم استعداداً للموت).
يا أيها الأخ الكريم! اعلم علم اليقين أنه لابد أن تلقى الله رب العالمين، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:6 - 8].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
وقال عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
أي: إلى ربك يومئذ المرجع والمآل والعودة.
فيا أيها الإنسان! لا تظن أنك قد خلقت سدىً، ولا تظن أنك قد خلقت لتدور في اليمين وفي الشمال برغباتك وشهواتك وأهوائك ونزواتك، فافعل ما شئت في هذه الحياة، وابعد عن أوامر ربك ما شئت؛ لأنه لابد أنك ستقف يوماً بين يدي الله جل وعلا، لتسأل عما قدمت، وعما أخرت، وعما أسررت، وعما أعلنت، قال عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:1 - 4]، قرأ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الآية يوماً فقال لأصحابه: (أتدرون ما قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: يوم تشهد الأرض على كل من كان على ظهرها)، فسوف تشهد عليك هذه الأرض، وتخبر بكل شيء؛ بكل ما كان، وبكل ما جرى، وبكل ما حدث.
ويقول الله جل وعلا في سورة يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:65 - 68]، فتشهد عليك جوارحك، وتشهد عليك هذه الأرض التي تعيش عليها، والتي عصيت الله جل وعلا على ظهرها، ولم تعجل بالتوبة إلى الله عز وجل بعد هذه المعصية.
فيا أيها الأخ الكريم! اعلم أنك ما خلقت سدىً وهملاً، بل إنه لابد لك من لقاء بين يدي الله جل وعلا، ولكن هذه الحياة وهذه الفترة التي ستحياها بين وقت ميلادك ووقت مماتك هي فترة عصيبة ورهيبة.
فلابد أن تسجد لله شكراً أنك من الموحدين لله جل وعلا، والله الذي لا إله غيره! ليس الأمر باختيارك ولا بإرادتك أنت، وإنما الأمر بتوفيق الله جل وعلا كما قال عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فلا تظن أنك مسلم لله جل وعلا بفضلك واختيارك ورغبتك، بل إنك بعثت في أسرة مسلمة، ونشأت على الإسلام، جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي: من عاش في أسرة يهودية شب يهودياً والعياذ بالله! ومن عاش في أسرة نصرانية شب نصرانياً والعياذ بالله! ومن عاش في أسرة مجوسية شب مجوسياً والعياذ بالله! أما إن رأيت نفسك في أسرة تعلن التوحيد لله جل وعلا، وتنتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله! يا إخواني! إنها نعمة لو شكرنا الله جل وعلا عليها الليل والنهار ما وفيناه حق هذه النعمة؛ لأنه فضل الله أولاً وآخراً، وابتداءً وانتهاءً، فهو الذي اختارنا موحدين، وهو اختارنا مسلمين، وهو الذي ثبتنا على سنة رب العالمين، فعليكم أن تسجدوا لله شكراً على هذه النعمة، وصدق من قال: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.