لنتعلم هذا الدرس العجيب الغريب الكبير من صبي ما جاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً؛ لكن هذا الصبي عرف أمانة الكلمة، وعرف خطورة الكلمة في آن واحد، إنه عمير بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الفتى الذي توفي أبوه فتزوجت أمه برجل ثري يقال له: الجلاس بن سويد، وفي السنة التاسعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يبذلوا وأن ينفقوا لإعداد الجيش، فانطلق المسلمون يصورون أروع صور البذل والإنفاق والعطاء، حتى بكى الكثير؛ لأنه لم يجد ما ينفقه لدين الله وفي سبيل الله جل وعلا، وعاد الفتى الصغير ليقص على أسماع الجلاس ما رأى وما سمع، فقال الجلاس كلمة خطيرة تخرجه من الإسلام من أوسع أبوابه، وتدخله الكفر من أوسع الأبواب، قال الجلاس لـ عمير: إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه فنحن -والله! - أشر من الحمير! فاحتقن الدم في وجه هذا الفتى البار الذي وزن الكلمة بفهم دقيق ووعي عميق، وهو الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً، ونظر إلى الجلاس بن سويد وقال: (يا جلاس! والله! ما كان أحد على ظهر الأرض أحب إليَّ بعد رسول الله منك، ولقد قلتَ الآن كلمة إن قلتُها فضحتُك، وإن أخفيتُها خنتُ أمانتي، وأهلكتُ نفسي وديني، فكن على بينة من أمرك، فإني عازم على أن أمضي إلى رسول الله لأخبره بما سمعتُ)، وانطلق الفتى المؤمن البار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقص عليه ما سمع من الجلاس بن سويد؛ ولكن رسول الله لم يتعجل؛ لأنه هو الذي نزل عليه قول ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد، وأرسل إلى الجلاس بن سويد، فجاء الجلاس، فحيا رسولَ الله وجلس، فقال له النبي: (ما هذه المقالة التي بلغتنا عنك؟ وأخبره بما قال عمير) فقال: كذب، -والله- يا رسول الله! والله! ما قلتُ هذا، والله! لقد كذب علي عمير، والتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير فرأى الدم قد احتقن في وجهه مرةً أخرى، وانهالت الدموع مدراراً على تلك الوجنتين الرقيقتين، فرفع الفتى رأسه إلى السماء ليناجي ربه جل وعلا وقال: (اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمتُ به) أيُّ يقين؟! وأيُّ ثقة؟! ويستجيب الله جل وعلا له؛ فإن الله يسمع ويرى، يستجيب الله دعوة هذا الفتى البار دعوة هذا الفتى الصادق، فينزل الوحي على رسول الله، وتصمت الكلمات، وتحبس الأنفاس، وتتعلق الأبصار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسُرِّي عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتلو قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74]؛ فيصرخ الجلاس وهو يستمع إلى هذه الآية الكريمة ويقول: صدق عمير يا رسول الله! وكذبتُ أنا، ويلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير بن سعد ليفرك أذنيه برقة ولطف وحنان ويقول له: (وفَّتْ أذنُك ما سمعت، وصدَّقك ربُّك يا عمير!).
إنها أمانة الكلمة، والقصة -أيها الأحباب- أوردها الإمام السيوطي في (الدر المنثور) وعزاها إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم.