أيها الحبيب الكريم! هذا هو الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس رضي الله عنه وأرضاه، يأتي إلى مكة -شرفها الله- ورحى الصراع دائرة على أشُدها بين المشركين وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المشركون والصناديد يحولون بين الناس وبين دعوة الحق، فذهبوا إلى الطفيل وحذروه، وقالوا له: إياك وأن تستمع إلى كلمة من محمد بن عبد الله؛ فإن كلامه كالسحر يفرق بين الابن وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجه، فنحذرك على مكانتك وشرفك وسيادتك في قومك، فاحذر أن تسمع كلمة واحدة من محمد بن عبد الله، وظلوا يحذرون الطفيل، حتى عزم على ألا يستمع إلى كلمة واحدة من رسول الله، فلما أراد أن يذهب إلى البيت الحرام ملأ أذنيه قطناً؛ لكي لا تصل كلمةٌ إلى الأذن؛ لكن هيهات هيهات! فإن الكلمة الطيبة لا تحجبها السدود، ولا تمنعها الحواجز، ولا تصدها العقبات والعراقيل، يقول الطفيل: (فذهبت إلى الكعبة، فرأيتني قريباً من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأبى الله إلا أن يُسمعني بعض ما يقول محمد) سبحان الله! أيها الحبيب! لك أن تتخيل القرآن الذي قال الله فيه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] ولك أن تتخيل إذا قرأ هذا القرآنَ رسولُ الله، والله لقد خشي المشركون على أنفسهم من سماعه كما قال عز وجل عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] هذه وصيتهم لبعضهم البعض؛ لأنهم خافوا على أنفسهم من سماع القرآن؛ لأن القرآن يصفع الكِبر في قلوبهم وعقولهم، ويخاطب أعماق فطرتهم، ويمس الوجدان، ويحرك القلب الحي السليم، بل قد تعجبون أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في السنة الخامسة من البعثة في مكة إلى بيت الله الحرام، وقام النبي يصلي ويقرأ القرآن على أسماع المشركين، فصمتت الألسنة، وانتبهت وتيقظت الأسماع، وتعلقت الأبصار، وأنصتوا لقراءة رسول الله، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أسماعهم سورة النجم، وفي أواخر السورة قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوارع تطير لها القلوب، قرأ قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62]، وخر النبي ساجداً لله، وخر المشركون من خلفه سجّداً لله، والحديث رواه البخاري في كتاب التفسير وعنون له بعنوان طيب، ورحم الله من قال: (فقه البخاري في تراجمه) نعم؛ لقد فقه الإمام رحمه الله هذا الحديث، فعنون له بقوله: (باب: سجود المسلمين مع المشركين).
وروى الحديث مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سجد رسول الله بسورة النجم -قرأ السجدة وسجد- فسجد المشركون والمسلمون، والجن والإنس).
أيها الحبيب! أبى الله إلا أن يُسمع الطفيل كلاماً من كلام الحق، فقال لنفسه: ثكلتك أمك يا طفيل! إنك رجل لبيب شاعر، فلماذا لا تسمع من هذا الرجل؟! فسمع الطفيل رسول الله، ثم قال: (اعرض عليَّ أمرك.
فعرض النبي عليه الإسلامَ، فقال الطفيل: امدد يدك لأبايعك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله) كلمة الحق لا تمنعها السدود، أوصلها الله جل وعلا إليه.