ولا ينبغي أن ننسى هذا المشهد المهيب، هذا المشهد الكريم، وأزفه إلى الآباء والأمهات، إنه مشهد زواج بنت سيد التابعين سعيد بن المسيب، عاصر كثيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعترف معظم علماء الحديث بمراسيل أحد أكثر من اعترافهم بمراسيل سعيد بن المسيب، كما قال أحمد وغيره.
سعيد بن المسيب كانت له فتاة، أتدرون من خطبها لابنه، خطبها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، لولده الوليد، أي نسب وأي شرف! أمير المؤمنين يخطب فتاة لولده، إنها زيجة يحرص عليها كل الناس، ولكن من ملأ الإيمان قلبه، وملأ التقى جوانحه، يريد أن يقدم ابنته لرجل صالح تقي نقي يراقب الله فيها، ويتقي الله فيها، ولو كان فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ورفض سعيد بن المسيب أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك بن مروان، وغضب عليه عبد الملك بن مروان بسبب ذلك، فلما أبى سعيد بن المسيب جلده مائة سوط.
ارجعوا إلى سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في المجلد الرابع تحت عنوان: تزويجه ابنته، ضربه مائة سوط في يوم بارد، وأبى سعيد بن المسيب أن يقدم فلذة كبده وثمرة فؤاده للوليد بن عبد الملك بن مروان، وقدمها لطالب علم في حلقته فقير متواضع، إلا أنه وجد فيه التقى، ووجد فيه الصلاح والفلاح، قدمها لـ كثير بن أبي وداعة رحمه الله، والقصة أوردها الإمام أبو نعيم في الحلية، وأوردها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وأوردها ابن خلكان في وفيات الأعيان، وأوردها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وعلى الرغم من أن كثيراً من علماء الجرح والتعديل قد ضعف أحمد هذا إلا أن الإمام مسلماً رحمه الله تعالى قد احتج به على ضعفه، وقد وثقه غير واحد كـ ابن أبي حاتم وغيره.
يقول كثير بن أبي وداعة: كنت ممن يجلس في مجلس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فسألني: أين كنت؟ فقلت: لقد توفيت أهلي، أي: ماتت زوجته وكان متزوجاً، فما قال: لن أزوجها لرجل قد تزوج قبل ذلك.
قال: أين كنت؟ قال: لقد توفيت أهلي فانشغلت بها، أي: ماتت زوجتي فانشغلت بها، فقال سعيد: هلا أخبرتنا فشهدناها معك، ثم قال سعيد بن المسيب: هل استحدثت امرأة أخرى، أي: هل تزوجت غيرها؟ فقال له كثير بن أبي وداعة: يرحمك الله يا أبا محمد! ومن يزوجني ولا أملك من الدنيا إلا درهماً أو درهمين! وفي رواية: إلا درهمين أو ثلاثة! فقال له سعيد: أنا أزوجك، قال: أوتفعل؟ قال: نعم، يقول: فقام سعيد فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على رسول الله، وزوجني ابنته على درهمين! يقول كثير: فانطلقت إلى بيتي وأنا لا أعلم ماذا أصنع من الفرح، ثم صليت المغرب وعدت إلى داري وكنت صائماً، وقدمت العشاء وكان خبزاً وزيتاً، وبينما أنا جالس أفكر فيمن أستدين منه، وإذا ببابي يقرع، فقلت: من؟ قال: سعيد! يقول: ففكرت في كل أحد اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه منذ أربعين سنة لم ير إلا بين مسجده وبيته، ففتحت الباب، فإذا به سعيد بن المسيب فقلت: أبا محمد! وظننت أنه قد فكر في شيء آخر وغير رأيه، فقلت: يا أبا محمد هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فقال سعيد بن المسيب: لا، أنت أحق أن تؤتى، ثم قال سعيد: يا كثير، لقد فكرت في أمرك: رجل عزب وقد زوجتك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وإذا بابنته واقفة في طوله من خلفه، فأخذها بيده ودفعها إلى دار كثير بن أبي وداعة، فأغلق الباب وانصرف، يقول كثير: فسقطت المرأة من الحياء! كن على حياء! يقول: فخشيت أن ترى الخبز والزيت، فجعلته وراء الشعلة -أي: وراء الضوء حتى لا تفتن لأول مرة بعيشته- وصعدت إلى سطح منزلي فناديت على جيراني، فجاءت زوجة من نساء الجيران فدخلت إليها لتؤنسها، ولما علمت أمي بذلك جاءتني وقالت: وجهك من وجهي حرام يا كثير إن مسستها قبل ثلاثة أيام، يقول كثير بن أبي وداعة: فتركتها ثلاثة أيام حتى جهزوها وأعدوها، فدخلت عليها فإذا هي من أجمل النساء، ومن أعلمهن ومن أحفظهن لكتاب الله، وأعلمهن بسنة رسول الله، وأعرفهن بحق الزوج، فغبت معها ولم أخرج إلى مجلس سعيد بن المسيب شهراً كاملاً، وبعد شهر خرجت إلى سعيد، فلما انفض المجلس اقترب مني وقال: كيف حال هذا الإنسان؟ قلت: بخير حال، بحال يسر الصديق ويسيء العدو، فقال لي سعيد: خذ عشرين ألف درهم لتستعين بها على حياتك! بالله عليكم بأي شيء نعلق! وماذا نقول، رحم الله من قال: رغيف خبز واحد تأكله في زاوية وكوز ماء بارد تشربه من صافية وغرفة نظيفة نفسك فيها هانية وزوجة مطيعة عينك عنها راضية وطفلة جميلة محفوفة بالعافية اختارك الله لها حتى تكون داعية خير من الدنيا وما فيها وهي لعمري كافية ما هذا! إنه الإسلام يا عباد الله! هذا هو ديننا: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.