وبعد ذلك -أيها الأحباب- فإني لا أريد أن أتوقف طويلاً مع هذه الآفات، لنقف طويلاً بعض الشيء مع هذه الآفة الكبرى، ومع هذا المرض السرطاني الخطير المدمر الذي استشرى في مجتمعات المسلمين، والله إنه مرض خطير وقع فيه كثير من الأخيار والأطهار، وقلَّ من وقع فيه وعوفي منه، ووقع فيه من وقع من العلماء والدعاة وطلبة العلم فضلاً عن عامة الناس، ووالله لا نبرئ أنفسنا منه والله لا نبرئ أنفسنا منه.
إنه مرض خطير وقعنا فيه بعمد أو بغير عمد، بقصد أو بغير قصد، ألا وهو الغيبة، الغيبة فاكهة المجالس أيها الناس، الغيبة ذلكم المرض السرطاني المدمر الذي استشرى واستفحل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أتدرون ما الغيبة؟ سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذا السؤال، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
لا إله إلا الله، غفرانك ربنا، غفرانك ربنا، كم زلت الألسنة، وكم كثر الكلام، وكم وقعنا في الغيبة، الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره: (قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) والبهتان إثم ومعصية عظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
في الحديث الذي رواه أبو داود في السنن، ورواه البيهقي، ورواه الحافظ أبو يعلى، وقال الحافظ ابن كثير إسناده صحيح، أن ماعز بن مالك رضي الله عنه وقع في معصية الزنا، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: (يا رسول الله! طهرني، يا رسول الله! طهرني) لأنهم كانوا يراقبون الله جل وعلا، من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما قبضت عليه هيئة، ولا دولة، وإنما كان يراقب الله جل وعلا، لم يراقب القانون الوضعي الأعلى، وإنما راقب الحي الذي لا يموت.
فلما وقع في الزنا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدميه مختاراً طائعاً، فقال: [يا رسول الله! طهرني أقم عليَّ الحد].
فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ومرة، فلما عاد ماعز رضي الله عنه، وأكد للنبي صلى الله عليه وسلم كبيرته وجريمته أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقام عليه الحد، ورجم ماعز بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما للآخر: (ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟!) هكذا وقع في مجتمع الصحابة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهما فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر على جيفة حمار -أعزكم الله- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أين فلان وفلان؟ فأقبلا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهما: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالا: يغفر الله لك يا رسول الله! هل يؤكل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكلكما آنفاً من لحم أخيكما أشد من أكلكما من جيفة هذا الحمار) وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها).
لا إله إلا الله! كم لوثت أفواهنا بأكل لحوم إخواننا، وكم لوثت أسناننا بتمزيق أعراض إخواننا.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا عائشة! لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ما قالت إلا هذه الكلمة: (يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لمزجته) أي: لغيرت لونه، وطعمه، ورائحته.
في الحديث الذي رواه أبو داود، وأحمد في مسنده، والترمذي، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت لما عرج بي) انتبهوا أيها الناس لتعلموا صورة المغتابين عند رب العالمين جل وعلا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مررت حين عرج بي -أي: ليلة الإسراء والمعراج- على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال عليه السلام: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهم أظفار من نحاس يخمشون ويمزقون بها وجوههم وصدورهم، من هؤلاء يا جبريل أصحاب المشهد المروع؟ قال: (هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ما من يوم يمر إلا ويأكلون حتى يشبعون، كم وقع في هذا المرض من الأخيار والأبرار والأطهار، إنها الكلمة إنه اللسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ بن جبل الطويل، الذي رواه الترمذي بسند حسن صحيح، أنه عليه الصلاة والسلام قال لـ معاذ في آخر الحديث: (يا معاذ! أفلا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا سول الله! قال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: كف عليك هذا -احذر هذا الثعبان- كف عليك هذا! كف عليك هذا! فقال معاذ بن جبل: وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
وهل أوقع الناس في الهاوية إلا هذا اللسان، يجلس الإنسان في المجلس فيريد أن يظهر للناس عبقريته، وخفة دمه، ولباقته، وذكائه، فيضحك الناس على أحد إخوانه، وربما كان ذلك على أحد العلماء أو الدعاة وإنا لله وإنا إليه راجعون: (وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
وفي رواية الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة -كلمة واحدة- من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم) كلمة!! وفي رواية أصحاب السنن بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً) كلمة!! أيها الأحباب: ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم قال: روى مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على الصديق رضي الله عنه، فرآه قد شذب لسانه -أي: أخرج لسانه خارج فيه- فقال عمر بن الخطاب: [مه مه، غفر الله لك يا أبا بكر ماذا تصنع؟ فقال الصديق رضي الله عنه لـ عمر: هذا الذي أوردني الموارد].
الصديق أبو بكر رضي الله عنه يخرج لسانه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] صديق الأمة -أيها الأحباب- إيه والله، أبو بكر يقول على لسانه الذاكر، الشاكر، النقي، العفيف، الطاهر: [هذا الذي أوردني الموارد] لا إله إلا الله [هذا الذي أوردني الموارد].
وأخذ ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن -نقلاً عن الحافظ ابن رجب - أخذ لسانه يوماً وهو يخاطبه ويقول له: [اسكت تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم] ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنه.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: [والله الذي لا إله إلا هو لا يوجد في هذا الكون شيء أحق بطول حبس من لسان] لا يستحق شيء أن يسجن في هذا الكون إلا هذا اللسان، هكذا يقول ابن مسعود عن نفسه أيها الأحباب.
وفي الحديث رواه أبو داود وأحمد وصححه شيخنا الألباني: (ما من يوم تصبح الأعضاء إلا وهي تخاطب اللسان، تقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، إن اعوججت اعوججنا).
فالله الله يا عباد في ألسنتنا، والله لا نبرئ أنفسنا من هذه الآفات، ولا من هذه الأمراض، الله الله في ألسنتنا، الله الله في أقوالنا، الله الله في أعمالنا.
يقول ربنا جل وعلا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته الع