{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فالموت حق -أيها الأحبة- وليت الأمر يتوقف عند الموت لاسترحنا كثيراً ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، وفي الحساب سؤال، والسؤال بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، إن الموت حقيقة لا تنكر.
ورحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره.
فقال الرجل: عمري ستون سنة.
قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل.
فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم.
عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع.
فقال الفضيل: يا أخي إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً.
فبكى الرجل وقال: يا فضيل وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة.
قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتق الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقى.
ورضي الله عن هارون الرشيد الذي يوم أن نام على فراش موته قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، وحملوا هارون إلى قبره - هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إليَّ خراجك هاهنا إن شاء الله- حمل ليرى قبره ونظر هارون إلى قبره وبكى ثم التفت إلى أحبابه من حوله وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] أين المال؟ أين الدولارات؟ أين السيارات؟ أين العمارات؟ أين الأراضي؟ أين السلطان؟ أين الجاه؟ أين الوزارة؟ أين الإمارة؟ أين الجند؟ أين الحرس؟ أين الكرسي الزائل؟ أين المنصب الفاني؟ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] وبكى هارون وارتفع صوته ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] أين الفراعنة؟ أين الأكاسرة؟ أين القياصرة؟ أين الظالمون؟ أين الطواغيت؟ أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
هل غادر الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان سلطان
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا أنس ولا جان
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بمنزلٍ ينسى الخليل به الخليل
وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل
قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل
من الباقي؟ إنه الحي الذي لا يموت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].