أعظم موقف للصديق

من خلال مطالعتي لسيرة هذا الطاهر العملاق أرى أن أعظم وأجل موقف وقفه الصديق لهذه الأمة يوم مات المصطفى صلى الله عليه وسلم وطاشت عقول الصحابة، حتى قال الفاروق الأواب عمر: إن رسول الله ما مات، بل ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن فيقطع أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات.

هذا ما قاله عمر الفاروق، فما ظنك بما قاله سائر الصحب الكرام؟ إلا أن الله قد ثبت الصديق رضي الله عنه، وتجلى في هذا اليوم إيمانه، واستوى على عرش اليقين يقينه، فشق الصفوف ودخل على غرفة حبيبه رسول الله في حجرة عائشة، فوجد المصطفى مسجى، وعلم أن الأمر قد تم وأن المصيبة قد وقعت، وأن رسول الله قد مات، فقبل الصديق رسول الله، وفي الرواية التي حسنها الألباني في مختصر الشمائل أنه نادى عليه وهو يبكي ويقول: وا نبياه وا نبياه.

وا صفياه وا صفياه.

وا حبيباه وا حبيباه.

وا خليلاه وا خليلاه.

ثم قال -كما في لفظ الصحيحين-: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم)، وخرج الصديق إلى الناس وهو يقول لـ عمر: على رسلك يا عمر.

أي: اصبر يا عمر فخطب الناس خطبة عصماء، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على حبيبه المصطفى، ثم قال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

وقرأ قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فعقر عمر وسقط على الأرض، وعلم أن حبيبه قد مات.

أيا عبد كم يراك الله عاصياًً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا إذاً: يا راية الله رفرفي إذاً يا خيل الله اركبي إذاً: يا جند الله سيروا.

فليتقدم الصديق ليرفع الراية وليواصل المسيرة بعد حبيبه ومصطفاه، إن هذا الموقف كان بمثابة الأسوة الحقيقية التي شدت اتجاه التاريخ إلى هذا العملاق، إلى صديق الأمة الذي لم تنته بركاته على أمة الحبيب محمد، بل بعد موت رسول الله أرسل بعث أسامة ليؤدب القبائل التي اعتدت على حدود الدولة الإسلامية.

ومن بركاته على الأمة أنه جمع القرآن بعد معركة اليمامة التي مات فيها عدد كبير من حفاظ القرآن من أصحاب رسول الله، ولم تنته بركاته على الأمة، بل قبل أن يلقى الله اختار عمر بن الخطاب خليفة مكانه لهذه الأمة، وقال: إن سئلت عن ذلك بين يدي ربي أقول: وليت عليهم أقواهم فيما أعلم.

فهل بعد هذا يسب الصديق؟ والله إن القلب ليحترق، وإن الكلمات لتتوارى على خجل واستحياء، والله لا أجد في قواميس لغة أهل الأرض جميعاً ما أستطيع أن أعبر به عن هذا الظلم الذي نحياه، أيسب الصديق؟! أيسب أطهر رجل في الأمة بعد المصطفى؟! ما هذا الذل والهوان؟! يا رب! ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما قال السفهاء منا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015