يجب أن نعلم ما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع هذا الخلاف؟ وهذا هو العنصر الثالث من عناصر المحاضرة، وأنا أقصد: أسباب الخلاف الثاني الخلاف في الفروع ومسائل الاجتهاد فأسباب الخلاف هي: السبب الأول: طبيعة البشر، أتحداك أن تخرج لي من هذا الجمع الكريم المبارك رجلين يتشابهان في كل شيء! محال أبداً، طبيعة البشر الأصل فيها الاختلاف، فالبشر على ظهر البسيطة يختلفون في طبيعتهم، في ألوانهم، في بشرتهم، في لغتهم، في قلوبهم، في ذكائهم، في فكرهم، في فهمهم، في صفائهم، في استقبالهم للمعلومات، في بصمة بنانهم، بل وفي أصواتهم، لا يتفق اثنان على ظهر الأرض اتفاقاً كاملاً في كل شيء أبداً، تدبر معي قول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] فالاختلاف مراد لرب العالمين في هذه الطبائع بنص القرآن الكريم.
(وَمِنْ آيَاتِهِ) جعل الله الاختلاف في طبيعة البشر آية للعالمين، أي: لأهل العلم الذين يتفكرون ويتدبرون، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) فهذا عربي، وهذا عجمي، وهذا فرنسي، وهذا هندي، وهذا كذا وهذا كذا، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) فالبشر يتفاوتون، وإذا كان ذلك كذلك فمحال أن يتلقى المعلومة مني الآن فلان كما تلقاها فلان، ولو تلقوها جميعاً بمفهوم واحد فستختلف النتائج، كل له فكره، كل له فهمه، كل له استيعابه، كل له إدراكه، كل له طبيعته، كل له خصائصه، فطبيعة البشر سبب رئيسي من أسباب الخلاف بين الناس.
ثانياً: عدم بلوغ الدليل، قد يبلغني دليل وقد لا يبلغ الدليل شيخاً آخر من المشايخ، فتأتي فتواي مخالفة لهذا الشيخ المبارك، لماذا؟ لأنه قد بلغه دليل أفتى به، ولم يبلغني دليله الذي أفتى به فأخالفه، وقد وقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل لقد غاب عن جمع من أصحاب رسول الله كثير من الأدلة وهم الذين كانوا يعايشون النبي، ويسمعون النبي، مع أنهم لا يتلقون العلم إلا عن معلم واحد، فما ظنك بأناس يتلقون العلم على يد آلاف العلماء، فلابد أنه سيختلف الفهم ويتشعب، كان عمر بن الخطاب مع أصحابه وهو في طريقه إلى الشام سمع بالطاعون، فانقسم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريقين: الفريق الأول يقول بالدخول إلى أرض الشام، والفريق الثاني يقول: لا يجوز لنا أن ندخل إلى الأرض ما دمنا لم نكن فيها، وكان على رأي الفريق الثاني الذي أبى الدخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال حينما قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! تفر من قدر الله؟ فقال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
وهذه المقولة الجميلة قمة الفقه، والشاهد أن الصحابة اختلفوا، فريق يأبى الدخول، وفريق يأمر بالدخول وغاب الدليل في هذه المسألة عن عمر، بل وعن جمع كبير من أصحاب النبي المختار صلى الله عليه وسلم، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال لهم: لقد سمعت في ذلك حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يقول: (إذا وقع الطاعون في أرض ولستم بها فلا تدخلوا إليها، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) والحديث رواه البخاري ومسلم.
والشاهد: أن عمر وعدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغهم الدليل الذي ذكرهم به عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعاً، فعدم بلوغ الدليل كان سبباً في الخلاف.
ثالثاً: عدم العلم بنسخ الدليل، قد يخطئ صحابي من الصحابة في مسألة فيأخذ بدليل معين وهو لا يدري أن هذا الدليل قد ورد دليل آخر ينسخه، سواء كان هذا الدليل من القرآن أو من السنة، مثل حديث: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فنسخ النبي عليه الصلاة والسلام الحكم الأول وهو النهي عن زيارة القبور بدليل آخر يسمى بالدليل الناسخ، فعدم بلوغ الناسخ والمنسوخ للمفتي قد يكون سبباً من أسباب الخلاف.
رابعاً: النسيان، وجل من لا ينسى، والنسيان أمر يعتري البشر على وجه الأرض، بل إن النسيان اعترى النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ورد في مسند أحمد وسنن الترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً في الصلاة فنسي آية، فلما سلم تذكر الآية، فقال لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: (يا أبي! هلا ذكرتني بها!) يعني: تذكرني بالآية وأنت في الصلاة، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون).
فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، فقد أنسى دليلاً، وقد تنسى دليلاً، فأقول بقول يخالف ما عندك من الدليل؛ لأني نسيت دليلك الذي تستدل به، وقد نسي عمر بن الخطاب حديث التيمم الذي ذكره به عمار بن ياسر، والحديث طويل مشهور، فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، بل أنت قد تنسى أمراً في بيتك فتختلف بسببه مع زوجتك، وقد تنسى زوجتك أمراً فتختلف معك، فالنسيان أمر يعتري البشر جميعاً.
خامساً وأخيراً: من أسباب الخلاف اختلافهم في فهم المراد من الدليل، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) هذا دليل صريح واضح، ومع ذلك اختلف الصحابة في فهم الدليل، فانقسموا إلى فريقين: فريق صلى العصر في الطريق، وقال: ما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، إنما أراد أن يحثنا على الخروج لمقاتلة بني قريظة.
والفريق الآخر قال: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فلن نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو دخل وقت المغرب، فانقسم الصحابة، وكان سبب الخلاف أنهم اختلفوا في فهم المراد من الدليل.