العنصر الثالث من عناصر هذه المحاضرة: كتاب تذكير الأصحاب في الميزان.
أيها الأحباب! أيتها الفضليات! إن نظرة سريعة للكتاب تضحك وتبكي في آن واحد، نعم، فالكاتب الذي يقول دائماً: كما هو مقرر في الأصول؛ لا يحسن معنى الدليل، ولا يحسن مراتب الأدلة، ويجهل قواعد الجمع والترجيح، ويسيء فهم قواعد علم الأصول، ومن ذلك حتى لا يظن أحد أننا ندعي ذلك جزافاً: أولاً: أن الكاتب لا يعلم كيف يستفاد الحكم بالتحريم، فمعلوم أن الحرام كما يقول الدكتور زيدان في كتابه القيم: الوجيز في أصول الفقه: الحرام هو ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم والإلزام، فيكون تاركه مأجوراً مطيعاً، وفاعله آثماً عاصياً، سواءً أكان دليله قطعياً لا شبه فيه كحرمة الزنا، أم كان دليله ظنياً كالمحرمات بالسنة (الأحاديث).
ثم يقول (أي الدكتور زيدان حفظه الله): ويستفاد الحكم بالتحريم -انتبه وانتبهن أيتها الفضليات! ويستفاد الحكم بالتحريم من استعمال لفظ يدل على التحريم بمادته كلفظ الأم أو لفظ البنت كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه البيهقي والدارقطني.
أو يستفاد الحكم بالتحريم من صيغة النهي المقترنة بما يدل على الحتم كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90].
أو يستفاد الحكم بالتحريم من ترتيب العقوبة على الفعل كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
والشرع الحكيم -وما يزال الكلام للدكتور زيدان حفظه الله- والشرع الحكيم لم يحرم شيئاً إلا لمفسدته الخالصة أو الغالبة، وهذه المفسدة إما أن ترجع إلى ذات الفعل المحرم، وهذا هو المحرم لذاته أو لعينه، وإما أن ترجع المفسدة إلى أمر اتصل بالفعل المحرم، وهذا هو المحرم لغيره كالصلاة في الأرض المغصوبة، أو كالبيع في وقت نداء الجمعة، فالبيع مثلاً في ذاته مباح، ولكن لوقوعه في وقت نداء الجمعة وإعاقته عن السعي إلى أداء صلاة الجمعة جاء النهي عنه من الشرع الحكيم.
هذه هي قواعد علم الأصول التي تعلمناها من علمائنا ومشايخنا، والتي يستفاد منها الحكم بالتحريم، فأين هذه القواعد من هذه الفتوى الجائرة الظالمة بتحريم النقاب، كيف فهم الكاتب هذه القواعد التي يستفاد منها الحكم بالتحريم؟ اسمعوا واستمعن، هل ورد نص بلفظ حرمة النقاب؟ هذه هي قواعد علم الأصول التي يستفاد منها الحكم بالتحريم، هل ورد نص بلفظ حرمة النقاب؟ أو هل ورد نص بنفي الحل عن النقاب؟ أو هل ورد نهي من الشرع عن ارتداء النقاب، سواء على سبيل التحريم أو حتى على سبيل الكراهة؟ أو هل ورد نص يحتم العقوبة على من تلبس النقاب؟ أجبنا أيها الكاتب! ومما يزيد الأسى أن الكاتب لا يعرف الفرق بين النقاب والحجاب، نعم، لا يعرف الفرق اللغوي بين معنى النقاب والحجاب، فهو يقول: إن كلامنا عن النقاب أفضل من كلامنا عن الحجاب؛ لأن الأول -أي: كلامنا عن النقاب- يدرأ فتنة، أما الثاني (أي: كلامه عن الحجاب) فيجلب المصلحة، ومعلوم أن درأ الفتن أو المفاسد مقدم على جلب النعم أو المصالح كما هو مقرر في الأصول، وليعلم الكاتب أن الحجاب أشمل وأعم من النقاب، والنقاب جزء من الحجاب الشرعي أو صورة من صور الحجاب الشرعي، فليتعلم معنى النقاب ومعنى الحجاب ليطبق القاعدة التي ذكرها آنفاً في علم الأصول تطبيقاً صحيحاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.