ثانياً: إن الكاتب -وهذا أمر خطير- استحل واستباح التدليس والتلبيس والتحريف والمراوغة، ولم يكن أميناً في نقل أدلة من خالفه من العلماء، بل كذب على العلماء وافترى على العلماء وقال عليهم ما لم يقولوه، لا ندعي ذلك جزافاً، ومن ذلك أنه دلس على شيخ الإسلام ابن تيمية وكذب عليه.
فالكاتب يقول في صفحة رقم (مائة وواحد وتسعين): قال ابن تيمية رحمه الله في الصراط المستقيم: ومن أجل ذلك كان من شروط المسلمين الأول على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات، ثم يعلق الكاتب ويقول: ويفهم -هذا ما يفهمه الكاتب- ويفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله: أن الوجه لنساء المؤمنين لم يكن مغطى، وهذا عين الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كيف فهم الكاتب هذا؟ ومن أين جاء بهذا الفهم؟ وهو يعلم -وأنا واثق من ذلك- أن شيخ الإسلام ابن تيمية من أوائل من يقولون بوجوب النقاب وبوجوب ستر الوجه، حيث يقول شيخ الإسلام في آية الحجاب، أي في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]: والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عبيدة السلماني وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكان النساء ينتقبن، وفي الصحيح: (إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين)، فإذا كن -وما يزال الكلام لـ شيخ الإسلام - فإذا كن (أي: النساء) مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بنصه من مجموع الفتاوى المجلد الثاني والعشرين صفحة رقم مائة وعشرة ومائة وإحدى عشر، ذكرت هذا ليتبين لكم -أيها الأحباب وأيتها الفضليات- كيف سمح هذا الكاتب لنفسه أن يكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يقول عنه ما هو بريء عنه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
وقد أوهم الكاتب القراء الذين يقرءون كتابه، من الذين لا حظ لهم من علم الأصول أو من الفهم الدقيق؛ أوهم أن الإمام ابن القيم رحمه الله يصف النقاب بالتنطع والغلو والتشدد والتكلف، فيأتي الكاتب بعدما وصف النقاب بأنه غلو وتنطع وتشدد، يأتي ببعض الألفاظ التي قالها الإمام ابن القيم ليرد بها على أهل الغلو والتنطع، يأتي بها الكاتب ليصف بها ما يقوله هو من أن النقاب تنطع وغلو؛ ليوهم الناس بأن هذه الكلمات التي ذكرها الإمام ابن القيم إنما يصف بها النقاب، وأنه من الغلو والتنطع والتشدد، ومعلوم أن الإمام ابن القيم يقول بوجوب النقاب كما في إعلام الموقعين عن رب العالمين في الجزء الثاني في فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة، ويوهم الكاتب أيضاً أن الإمام القرطبي يوافقه في مذهبه من تخصيص الحجاب بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فيقول الكاتب في صفحة رقم مائة وسبعة وأربعين بهذه الروح العجيبة التي أشرنا إليها آنفاً يقول: وقد فهم القرطبي هذا المعنى الأساسي مثلما ذهبنا إليه تماماً.
سبحان الله! القرطبي هو الذي فهم مثل ما ذهب إليه الكاتب، مع أن الإمام القرطبي رحمه الله يقول في تفسير نفس السورة في آية الحجاب: ويدخل في ذلك -أي: في عموم الحجاب لجميع البدن- جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، هذا قول الإمام القرطبي الذي أوهم الكاتب أنه وافقهم في مذهبه بتخصيص أمهات المؤمنين بالحجاب وحدهن رضي الله عنهن.
ثم يكذب الكاتب على العلماء الذين قالوا: بأن الحجاب ليس خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحده وهم كثرة، كما سنرى ليأتي بهذا الإجماع الغريب العجيب فيقول في صفحة رقم ثلاثة وعشرين: وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن النقاب خاص بأزواج النبي وحده، ثم نقل الإجماع! ومن أين جاء به؟ والله إنه عين الكذب على من قال: إن تخصيص الحجاب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق كما سنرى في الأدلة الشرعية، وهذا الكاتب يقول: أجمع على ذلك المؤيدون لتعليمه والمعارضون، وهذا بهتان عظيم! وأكتفي بهذا القدر لضيق الصدر وتألم النفس، وإلا فوالله لو وقفنا مع كل صفحة من صفحات هذا الكتاب لرددنا عليه.