كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وحده في مكة يدعو إلى لا إله إلا الله مع فئة قليلة مستضعفة، ويوم أن صعد على جبل الصفا؛ ليعلن هذه الدعوة بصورة جهرية؛ أرعدت مكة وأبرقت، ودقت طبول الحرب على أشدها على رأس النبي والموحدين معه، وما من مكان تحرك فيه المصطفى في أرض مكة إلا ووجد أرض مكة أرضاً صلبةً صلدة لا تتلقى بذرة التوحيد.
فعُذِّب، ووضعت النجاسة على ظهره، ووضع التراب على رأسه، بل وتقدم إليه المجرم عقبة بن أبي معيط وخنقه خنقاً شديداً، حتى كادت أنفاس الحبيب أن تخرج، وجاء صديق الأمة الأكبر ليدفع عقبة عن رسول الله وهو يقول: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم] ولا يجد في أرض مكة الأرض الخصبة التي تتلقى بذرة التوحيد، فيأمر أصحابه المضطهدين المعذبين بالهجرة، وبترك الديار والأوطان إلى أين؟ إلى الحبشة.
لماذا؟ لتغسل شلالاتها دماء وجروح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن بـ الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، بل ويضطر النبي صاحب الدعوة إلى ترك مكة للهجرة إلى أين؟ إلى الخروج إلى الطائف، يمشي على قدميه المتعبتين بلا راحلة، ولا زاد.
والله ما انطلق إلى أهل الطائف يريد مالاً، ولا جاهاً، ولا وجاهة، ولا ثراءً، بل خرج يريد لهم خيري الدنيا والآخرة، ويريد أن يُخرجهم من أوحال الشرك والوثنية إلى أنوار الإيمان والتوحيد برب البرية جل وعلا.
وفعل أهل الطائف بالحبيب ما تعلمون! فعلوا به أسوأ ما يُفعل بالإنسان، بل وذهب إليهم في اليوم الأخير يرجوهم رجاءه الأخير أن اكتموا خبر زيارتي عن أهل مكة حتى لا يشمت بي الأعداء هناك، فأبى أهل الطائف على النبي أن يحققوا له حتى هذا الرجاء الأخير، واضطروا النبي إلى أن يرفع هذه الدعوات وهذه الكلمات الحارة الصادقة، وإن كان الشيخ الألباني قد ضعف إسناد الحديث، إلا أن الحديث رواه الإمام الطبراني وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات إلا ابن اسحاق وهو مدلسٌ ثقة، ووقفت على طريقٍ آخر لهذا الحديث ولله الحمد والمنة رواه ابن اسحاق موصولاً عن محمد بن كعب القرظي، والروايتان تقوي الأولى الأخرى وهكذا فلا بأس على الإطلاق أن أستشهد بهذه الرواية لا أن أستأنس بها.
رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله أكف الضراعة قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني؟! أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن لا ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ويعود المصطفى، وفي الطريق يؤيده الله بهذا النصر الغيبي، وانتبه إلى أولى البشارات: ينادي منادٍ من السماء إنه جبريل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! لقد سمع الله ما قاله قومك لك، وقد أرسل الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فمره بما شئت يا رسول الله، فسلم ملك الجبال على المصطفى -والحديث في الصحيحين - وقال: مرني بما شئت يا رسول الله، لو أمرتني أن أُطبق عليهم الأخشبين لفعلت، والأخشبان: جبلان عظيمان بـ مكة يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للثاني: الأحمر.
انتبهوا أيها الأخيار والله الذي لا إله غيره لو كان ممن ينتقم لذاته ولمنصبه ولزعامته وقيادته وصدارته وريادته؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ملك الجبال فلحطم ملك الجبال أهل الطائف، ولهدم ودمدم هذه الرءوس الصلبة والجماجم العنيدة، ولسالت دماءٍ غزيرة ليرى أهل مكة بـ مكة دماء أهل الطائف في مكة.
ولكن ماذا قال نهر الرحمة، وينبوع الحنان؟ قال: (بل إني أرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله جل وعلا).