وكذلك فإن من الأخلاق العظيمة التي يحتاج إليها الداعية: (التواضع) فهو من أسباب النجاح في الدعوة، التواضع لله أولاً قبل أن يكون للخلق، التواضع لله سبحانه وتعالى والذل له عز وجل، إنه معنىً رفيع من معاني العبودية، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام المتواضعين، حج على رحل رثٍ وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وكان يقول في حجته: (اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة) وكان أصحابه لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أهدي إلي كراعٌ لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت) هذا العظم الذي ليس عليه إلا قليلٌ من اللحم يجيب الدعوة إليه، وكان عليه الصلاة والسلام يخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، وكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، ويأكل بأصابعه: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد).
وكان يبدأ بالسلام، ويعود المريض، وكانت الأمة تأخذ به صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثما شاءت، وهكذا كان أصحابه الدعاة إلى الله عز وجل، قال عروة: [رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء]، وولي أبو هريرة إمارة فكان يحمل حزمة من الحطب على ظهره ويقول [طرقوا للأمير] ومر الحسن على صبيانٍ معهم كسر خبزٍ فاستضافوه فنزل فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال: " اليد لهم " يعني: هم أصحاب الفضل، هم بدءوا، إنهم لا يجدون شيئاً غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه، وقال رجاء بن حيوة: قيمة ثياب ابن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر باثني عشر درهماً، فالتواضع الذي يلمسه المدعو من الداعية يُكسبه حباً له، وقبولاً لكلامه.
وهذا التواضع ضروري لأن من طبيعة الناس أنهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم، ويحتقرهم، ويستصغرهم، ويتكبر عليهم، ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً، فهم يغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه وإرشاده.
ومن طبائع الناس أنهم لا يحبون من يكثر الحديث عن نفسه، والثناء عليها، ويكثر من قولة (أنا)، فعلى الداعية أن يحذر من هذا أشد الحذر.
وكذلك فإن من طبع الناس النفور من كل من يتقعر في كلامه، ويتفاصح، ويتكلف، ويتنطع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هلك المتنطعون) وقال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة) كيف أن البقرة تخرج لسانها، وتلويه وتخفيه، وتظهره وتعيده وتبديه، هكذا يفعل بعض الناس.
مما يكون عيباً كبيراً أن يوجد هذا عند داعية، ويكون سداً منيعاً يحول دون تأثر المدعوين به: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون) الفكرة سهلة العرض مقبولة في عقول المدعوين، وكثيرٌ من الناس يكون عندهم بلاغة وأسلوب، لكن لا يتأثر بهم القوم، وبعض الناس ضعفاء ويتكلمون باللهجة العامية مع الأشخاص، يستجيب لهم الناس بسرعة، هذا يتكلف وهذا لا يتكلف، وليست المسألة دعوة للعامية وإلى ترك الفصحى، لا.
القضية: ترك التكلف والاصطناع، وأن يكون الداعية متواضعاً حتى في أسلوبه الذي يدعو به.
لماذا يكون بعض الدعاة من حملة الشهادات العليا خطباء مفوهون ولكن الناس من حولهم منفضون، وآخرون ليس عندهم شهادات، ولا عندهم تلك الفصاحة التي عند أولئك، وهم مع ذلك مقبولون محبوبون بين الناس، المسألة مسألة تواضع.