وننتقل إلى الخلق الثالث من الأخلاق المهمة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل: وهو خلق (الرحمة والشفقة) قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فانظروا رحمكم الله إلى هذا الخلق، خلق الرحمة في نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128] كم مرة صعد إلى ربه؟ ينزل ويصعد إلى الله، من أجل أن يطلب التخفيف عن الأمة في عدد الصلوات، حتى صارت خمساً بدلاً من خمسين.
أقرأه جبريل القرآن بحرف، فاستزاده عليه الصلاة والسلام إلى أن صارت سبعة أحرف، من أجل ألا تشق القراءة على الأمة.
وكم مرة يدعو الله عز وجل لأمته، وقد اختبأ دعوة لأجل أمته إلى يوم القيامة، عندما يكون الناس بأشد الحاجة، حاجتهم ماسة، يتمنون أن ينفكوا من أرض المحشر، يتمنون أن ينفكوا من هذا الموقف العصيب ولو إلى النار، فتدركهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي يأذن له بها ربه فيبدأ الحساب.
هذا النبي الكريم، كل شيءٍ يشق علينا فهو شاقٌ عليه، ولذلك جاءت شريعته بالرحمة والتخفيف في عدد من الأشياء؛ التيمم، الذي لم يكن معروفاً في الأمم السابقة، وهو موجودٌ في شرعنا؛ أدركتنا رحمة الله في تقسيم الغنائم فصارت حلالاً لنا: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] وكانت محرمة على من قبلنا، تنزل نار من السماء لتأكلها؛ والمسح على الخفين؛ أي مكان أدركتك الصلاة فيه فصل: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وهذا من خصائص هذه الأمة إلى آخر الرخص التي جاءت في هذه الشريعة.
الرحمة من أخلاق الداعية المهمة، كانت مع كل نبي؛ لأن كل نبي كان داعية في قومه، كان الأنبياء يقول الواحد منهم لقومه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21] يخاف عليهم العذاب العظيم، وخوفه عليهم نتيجة رحمته بهم، نتيجة الرحمة الموجودة في نفس النبي، والشفقة الموجودة في نفس الرسول، هي التي تجعله يخشى على قومه عذاب يومٍ عظيم فينطلق في دعوته، ولو ضربوه ولو أدموه لكنه مستمرٌ في الدعوة، إنها الرحمة التي كانت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه إلى الله لما طردوه، آذوه فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب: (انطلقت مهموماً على وجهي) النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يدري أين يتوجه، انطلق مهموماً على وجهه من شدة ما لقي من الأذى، لم يستفق ويرجع إلى نفسه، ولم يعرف أين هو إلا وقد صار في قرن الثعالب، وهو موضع بعيد، وأرسل الله إليه ملك الجبال يأتمر بأمره صلى الله عليه وسلم ماذا يريد، لو أراد أن يطبق على أهل مكة الجبلين لأطبقهما وارتاح النبي عليه الصلاة والسلام من هذه العصبة الكافرة الفاجرة المعاندة التي تعذبه وتسومه وأصحابه أشد العذاب، لكن هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يرتاح فقط؟ لا.
كان يريد الخير لهؤلاء المشركين والرحمة: (إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) كان يمكن أن يكتفي بمن معه من هؤلاء القلة المؤمنة الذين استجابوا ويأمر ملك الجبال بإطباق الجبلين على أهل مكة، لكن رحمته بقومه أبت ذلك، وشفقته عليهم رفضت هذا العرض الذي عرضه عليه ملك الجبال، إن الرحمة في قلب الداعية تدفعه للحرص على المدعو ألا يبقى ضالاً، أو يموت على الفجور أو المعصية، أو يترك على بدعة، أو يهلك على الكفر: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:44 - 45] شفقة من الداعية إبراهيم على أبيه المدعو.
الداعية يحب للآخرين ما يحب لنفسه، فهو إذا كان على هدى، وإذا كان على عبادة فهو يريد من المجتمع ومن الناس الآخرين أن يكونوا على هذه العبادة، بل وعلى أحسن منها، فالرحمة تهون على الداعي ما يصيبه من أذى الناس.
أيضاً: فإنه إذا أصيب بالأذى ربما يترك الدعوة، لكن هو الراحم بالعباد وبالخلق الذين يدعوهم إلى الله، يتحمل أذاهم ولسان حاله يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وكذلك الرحمة في قلب الداعية تمنعه من احتقار العصاة، فيبادلونه الاحتقار، أو يرفضون كلامه، فهو يكلمهم بلسان الرحيم بهم المشفق عليهم، وهذا من أسباب الاستجابة.