والآيات الأخيرة التي سنذكرها في آيات الظلم هي الآيات التي ذكرها الله مجتمعةً في سورة الشورى، يقول تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42] أي: إنما الحرج والعنت على الذين يبدءون بالظلم.
وأما عفو المظلوم فإنه مريحٌ لقلبه {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] أي: من صبر على الأذى وستر السيئة، فإنه يكون قد فعل أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، له عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل من الله تعالى؛ كما في الكلمات الحكيمة: صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، واعفُ عمن ظلمك.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي! اعفُ عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر؛ لأن بعض الناس لا يحسن الانتصار، بل يظلم ويتجاوز في الانتقام، فيقول الفضيل: أوصه فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وتأخذ حقك فقط فافعل، إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه بابٌ واسع، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل هادئاً مطمئناً لا يخشى أنه تجاوز، ولا يحتاج إلى التفكير في شيء، لأنه لم ينتقم أصلاً، وصاحب الانتصار يُقلب الأمور، ويكون قلقاً، ويقول في نفسه: هل يا تُرى تجاوزت؟! هل يا تُرى اعتديت؟! ونحو ذلك، وهذه المرتبة مرتبة العفو هي التي تليق بالأكابر، وهي التي ينبغي أن تكون مرتبة الدعاة إلى الله والعلماء والقدوات بين الناس كما جاء عند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه كان معك ملكٌ يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر! ثلاثٌ كلهن حقٌ: ما من عبدٍ ظلم بمظلمةٍ فأغضى عنها لله عز وجل إلا أعزه الله بها ونصره، وما فتح رجلٌ باب عطية يريد بها صلةً إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجلٌ باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة).
وقد روى هذه القصة الإمام أبو داود أيضاً فقال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وقع رجلٌ بـ أبي بكر فآذاه فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدت عليَّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل ملكٌ من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان) والحديث صحيحٌ بطرقه كما في السلسلة الصحيحة.
قال ابن كثير رحمه الله: وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسبٌ للصديق رضي الله عنه، لأنه في المقام العالي، فهو الذي لو وزن إيمان الأمة بإيمانه لرجح إيمانه؛ فاللائق به أن يعفو، وألا يرد، وهكذا شأن الكبار.