يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: هل أعجب من أن المجمَّع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر الحرب الكبرى -أي: العالمية- ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة: (نظام الحصر البحري) وكانت مما دخل على الفرنسيين من النكبات مع نكبة الحرب العظمى، فلما ذهبت تلك النكبات رأى المجمَّع العلمي الفرنسي أن الكلمة الإنجليزية نكبة على اللغة الفرنسية يجب التخلص منها، ورآها كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارته وسلاحه وعلمه.
ثم يقول الرافعي رحمه الله وهو من كبار الأدباء الذين أنجبتهم مصر أرض الكنانة: ما ذلت لغة شعب إلا ذلوا، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمَرة، ويركَبَهُم بها، ويشعرهم عظمته فيها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عمل واحد: أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً.
وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً.
وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يضعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع.
إن اللغة هي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها، وهي عمقها وعاطفتها وتفكيرها، فهي نسبٌ للعاطفة والفكر، حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم، فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة؛ لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء، وإنك ترى الواحد منا اليوم -مع الأسف- الكلمة الأجنبية أسبق إلى لسانه من الكلمة العربية، وإذا أراد أن يلقي تراجعاً، وقف فترة يفكر ويبحث عن الكلمة العربية المرادفة، ويعصر ذهنه، لأن مفردات الثروة اللغوية ضعيفة، فإن اللغة الفرنسية مفرداتها حسب القاموس تقريباً خمسة وعشرون ألف كلمة، واللغة الإنجليزية بالمصطلحات وبالمولدات وبالأشياء الجديدة وما أكثرها! مائة ألف كلمة، وكلمات اللغة العربية: أربعمائة ألف كلمة، فإنك تجد للسيف أسماء عدة، حتى الكلب له في اللغة العربية أسماءً عدة، وعندهم الكلمة الواحدة تحتمل معاني كثيرة لا علاقة ولا رابطة بينها وبينها.
يذهب أولادنا إلى الخارج لدراسة اللغة الأجنبية في الخارج، وتقول له: يوجد هنا تدريس لغة أجنبية.
فيقول: لا، أنا أريد أن أسكن مع عائلة أجنبية في الخارج لأتعلم اللغة وأصبح طليق اللسان بها.
وفتح باب الهجرة إلى الغرب مثل كندا وغيرها؛ لامتصاص عقول المسلمين وعصارة المسلمين لصالحهم وتقدمهم، وإذابة المهاجرين المسلمين في مجتمعاتهم، إنها أهداف مزدوجة.
ذهب رجل مسلم مع زوجته المحجبة وأولاده إلى السفارة الأجنبية، يطلب الهجرة، فقال له الملحق في تلك السفارة بصراحة نحن لا يهمنا لا أنت، ولا زوجتك المحجبة، لا نطمع فيك ولا في زوجتك المحجبة، ولا في أولادك الذين عندهم شيء من الثقافة المشرقية، لكننا نسمح لك، لأن أحفادك لنا، ولأننا نوقن أن أحفادك لنا نحن وهكذا حصل، فماذا سيفعل الذي يترك بلاد المسلمين والعرب إلى الغرب؟ وبعضهم مضطر إلى هذا، فيذهب إلى هناك ويعلم ولده حصة في اللغة العربية في مركز إسلامي، أو معهد إسلامي، ويبقى الولد سنوات وهو يتهجى الكلمات ولسانه طلقٌ بلغة القوم، وإذا طلبت من الواحد من أولاد المبتعثين الذين عاشوا سنين في الخارج أن يتكلم بالعربية، كأنه يكسر أحجاراً، قال أحد الدعاة لبنت صغيرة من بنات هؤلاء: قولي لي حكاية في اللغة العربية.
فقالت: كانت هناك بنت، (بنت هناك كانت، وكان لها ثنتين قطز، الجمع) ثم تخلت عن العربية ولم تستطع أن تكمل الحكاية باللغة العربية، هذا هو حال أولاد المسلمين في الخارج، إنها مأساة.
جاءني رجل يسأل عن مشكلة اجتماعية، ويعترف بأنه ارتكب جرماً عظيماً عندما تزوج من امرأة أمريكية في الخارج، وقال لي: انظر إلى هذا، وكان بجانبنا رجل من الصالحين يقرئ ولده القرآن، وقال: ولدي الصغير لا يستطيع أن يقرأ مثل هذا، وهو عربي، والآن عرفت الجريمة التي أجرمتها في حق ولدي.
ولما تركنا أولادنا أمام التلفزيون مستمعين طيلة الوقت، صار الولد عاجزاً عن تركيب الجمل والتعبير، كان الأولاد في السابق يجتمعون أمام البيوت وفي الحارات، ويؤلفون قصصاً، ويتكلمون، أما الآن فإن أولادنا أمام الشاشات وألعاب الكمبيوتر، والقدرة على الكلام تلاشت، يصاب الولد بالارتباك في تفكيره وحركة أصابعه، ولم يحسن إمساك القلم بعد، ونحن ندرسه بلغتين في الروضة، ويكتب مرة من اليمين إلى الشمال، والحصة التي بعدها من الشمال إلى اليمين، فيبقى في غاية الارتباك.
يأتي العمال البنغاليون الذين قدموا إلينا، وجلسوا عشر سنين وخمس عشرة سنة، ولم يتعلموا من اللغة إلا شيئاً يسيراً، والواحد منا إذا ذهب إلى الخارج تعلم رغماً عنه، وفي مدة يسيرة (ستة أشهر) يتقن اللغة الإنجليزية والألمانية، والألماني في الشارع في ألمانيا يرفض أن يكلمك باللغة الإنجليزية ولو كان يعرفها، بل يفرض عليك أن تتكلم بالألمانية، ولائحات الشوارع واللافتات كلها بالألمانية، ولا مجال للغة الدخيلة، ولا اللغة الأجنبية عندهم، والفرنسي لا يتكلم معك بالإنجليزية، ويعتبره غزواً ثقافياً وعيباً، ونحن يأتي أخونا المسلم من الهند يعيش بيننا، ولا يتعلم إلا (أنت فيه روح، أنا فيه روح، خلي يولي) عبارات عجيبة! ويعود إلى بلده وهو لا يحسن العربية، ولا يتكلم بالعربية، ولا يكتب بالعربية، بل الأعجب من ذلك أن يأتي العامل البنغالي إلينا وهو لا يعرف لا الإنجليزية ولا العربية، لا يعرف إلا لغته الأصلية، فيرجع من عندنا وقد تكلم باللغة الإنجليزية، لأننا عودناهم، وانظر إلى أسماء الشركات (دسكو، مسكو، فسكو) وأسماء المحلات، والألفاظ التي حدثت، نعجز عن أن نقول (للتلفون) هاتف! أو للبيجر نداء! أو عن الراديو مذياع! ونحو ذلك، عندنا كلمات لكننا نحن كلمناهم وعودناهم، ورضخنا للأجنبي نتكلم معه، ولو ذهبنا إلى بلده، فلن يعترف بلغتنا إنها هزيمة وضعف ومصيبة كبيرة، وأهل العلم كانوا يرون تعزير من يروج الأشعار باللهجة العامية لقد صارت عندنا عقدة الأجنبي عقدةً عظيمةً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العربية وأهل كتابه المبين، ومن أهل سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.