كذلك فإننا نتذكر في هذا الفصل -أيضاً- مراعاة المسلمين لإخوانهم في كف الروائح الكريهة عنهم، فإن العرق الذي يكون من الجسم في وقت الحر رائحته شديدة في الملابس كالجوارب، وفي الجسد في الآباط وغيرها، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن عكرمة: أن أناساً من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارباً السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال: (أيها الناس: إذا كان هذا اليوم -يعني: يوم الجمعة- فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه).
ومن هنا ذهب بعض أهل العلم إلى إيجاب غسل الجمعة على من له رائحة كريهة تؤذي المصلين؛ فإنه يجب عليه أن يغتسل قبل إتيانه إلى المسجد وإلا أثم بذلك، ورأى بعضهم أن الغسل واجب في كل حال، يجب عليه الاغتسال لإتيان الجمعة.
وكان أهل العلم -أيضاً- يطلبون العلم صيفاً وشتاءً لا يصدهم الحر عن طلب العلم، فإذا كان يؤذيك حر المصيف وبرد الشتاء فمتى تطلب العلم؟ وحكي في سيرة ابن المظفر سبط ابن الجوزي رحمه الله الذي ألف الكتاب العظيم في التاريخ مرآة الزمان، كان حسن الصورة، طيب الصوت، حسن الوعظ، حتى أن أهل دمشق كانوا يخرجون إليه في يوم وعظه يوم السبت بكرة النهار، كانوا يبيتون بالجامع لتحصيل حلقة العلم ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يحضرون الدرس، ثم ينصرفون إلى بساتينهم، وكانوا يخرجون من البلد إلى بساتينهم في وقت الصيف لاتقاء حر الصيف، فكان إذا صار موعد الدرس رجعوا من البساتين إلى البلد، وبات بعضهم في المسجد لأجل حضور الدرس من كثرة ما يزدحمون عليه! ومما يراعى في الصيف -أيضاً- مراعاة البهائم، كيف لا وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن امرأةً بغياً رأت كلباً في يوم حار يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموطها -أي: الماء- فغفر لها) رواه مسلم رحمه الله تعالى.