الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا هو العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً رسول الله سيد الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار.
عباد الله: إن من أعراض الجسم ما يذكرنا بحرارة جهنم -أيضاً- ألا وهي الحمى، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها بأن شدتها من فيح جهنم، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله: (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)، وهذا يبين أن هناك أموراً غيبية لا تصل إليها عقول العباد، وأن الناس فسروا الأمور بالظواهر، فسروا الأمور بالأسباب الدنيوية فقط، فإنها نظرة قاصرة، فيعتمل في الجسم من أنواع العوامل المؤدية إلى رفع الحرارة ما يرفعها، ولكن هناك ارتباط كذلك (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء).
وقد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء عظيم، فقد روى أبو سعيد الخدري قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضاعف لنا البلاء ويضاعف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء).
وقد أصيب الصحابة لما وصلوا المدينة بالحمى، فوعك أبو بكر وبلال، ودخلت عائشة على أبيها فقالت: يا أبت، كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بواد وحولي إذخر وجليل
يتذكر حشائش مكة ونباتاتها وجبالها
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وظفيل
فقالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها -أي: اجعلها جواً صحياً- وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بـ الجحفة)، فاستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقلت الحمى التي كانت من الأمراض المشهورة في المدينة تعتري من فيها خصوصاً الغرباء، نقلت منها فجعلت في الجحفة، حتى أنه قال القائل: إنه إذا نزل بها البعير ربما أصابته بـ الجحفة، فأما المدينة، طيبة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فنقلت الحمى منها، وكان المولود يولد بـ الجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى، كما روى ذلك البيهقي في دلائل النبوة.
وهذه الحمى مكفرة للذنوب، فلا يسبها الإنسان، وليس كما يفعله بعض الناس عندما يسبون الحرارة والسخونة من الحمى، وهي حظ المؤمن من نار جهنم، وتكفر عنه سيئاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبها كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة: (لا تسبها فإنها تمحي الذنوب)، وذكر ابن القيم رحمه الله في علاج الحمى من الطب النبوي الآثار في علاجها، ومنها: الماء البارد على الذي أصابته الحمى في وقت السحر ثلاثة أيام متوالية، والعلاج بالتبريد معروف عند الأطباء.
ثم ذكر قصة شاعر أصابته الحمى، فلما أوشكت أن تقلع عنه قال:
زارت مكفرة الذنوب وودعت تباً لها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا ترجعي
قال رحمه الله: تباً له؛ إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه، ولو قال:
زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلاً بها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا ترجعي