الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الملك وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعانا إلى كتاب ربنا وبيَّن لنا الحلال والحرام، وبيَّن لنا سبيل الهدى وسبل الضلال حتى نجتنبها، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: من فوائد اليوم الآخر إرجاع الحق إلى نصابه، وقد ذكرنا هذا قبل قليل، ولكن لأهمية هذه المسألة لا بد أن نركز عليها -أيضاً- الناس اليوم كما يصف الكثيرون -حتى من العامة- في غابة يأكل القوي الضعيف؛ بسبب البعد عن منهج الله عز وجل، ولكن هذا المقبور وهذا المظلوم المغلوب الذي يقع تحت نيل الظلم والغلبة بأولئك الجبارين المتكبرين في الأرض، هذا الرجل أو هذه المرأة سيتكفل الله بإرجاع الحق له يوم القيامة، وربما يكون من الخير له أن ظلم الآن حتى يأخذها يوم القيامة بالحسنات والسيئات، يأخذ من حسنات ظالمه فإذا فنيت حسنات الظالم أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار.
هذا الظلم لا يرضاه الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ينهى سبحانه وتعالى عن الظلم، وهذه قصة مما حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لنا كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثرون بهذا المفهوم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم.
فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك في كفة وعقابك إياهم في الكفة الأخرى، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم -عاقبتهم أكثر مما يستحقون- اقتص لهم منك الفضل -أخذوا منك الفرق- فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار) رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح.
فالصحابة رضي الله عنهم كانت عندهم شفافية في النفس تجاه الظلم، كانوا يتحرون أشد التحري في قضية الظلم، فهذا الصحابي أعتق العبيد كلهم؛ لأنه خشي أن يكون قد ظلمهم أو عاقبهم أكثر مما أساءوا إليه كل هذا يوم القيامة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
أيها الإخوة: ما الذي يضمن عدم ظلم الزوج لزوجته أو العكس؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدرس لطلابه؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدير لمن تحته من الموظفين والعمال؟ وقس على ذلك، ما الذي يضمن لنا في النظام الإسلامي هذا الأمر؟ قد تقول: المحكمة.
المحكمة قد يوجد في الأرض محاكم تحكم بشريعة الله، وهذا نادر الآن، وقد يوجد محاكم تحكم بالظلم، وقد يكون القاضي صاحب ذمة وضمير متصل بالله عز وجل وقد لا يكون، قد يقبل الرشوة، قد يكون المشتكى عليه قريباً له فيحكم له ويزور القضية، قد يكون المدرس له واسطة عند المدير فلو جاء الطالب يشتكي عند مدير المدرسة لبرأ سماحة المدرس وربما عاقب الطالب، وقد يكون للمدير الفلاني واسطة ونحو ذلك إذاً: ما الذي يضمن؟ ما هو الضمان الحقيقي؟ إنه اليوم الآخر أيها الإخوة!! بعض العمال قد لا يعلم أن من مستحقاته كذا وكذا فيصفي له صاحب العمل حساباته ويعطيه إياها دون أن ينبهه على أن من حقه كذا وكذا، فهو أصلاً لم يشعر أنه مظلوم حتى يشتكي، هذه الدريهمات التي أكلها صاحب العمل عليه أين ستذهب؟ والذين أكلوا حقوق الأجراء والعمال ولم يعطوهم إياها، أو أعطوهم نصفها أو ربعها أين سيذهب الباقي؟ قد لا يجد العامل المسكين مجالاً ليحصل على حقه، أين الضمان الحقيقي في أرجاء الأرض كلها مشارقها ومغاربها؟ أين سيكون هذا؟ قد يوجد ظلمة يحكمون الناس فيقتلون ويسجنون ويعيثون في الأرض فساداً ثم يموتون وهم على عظمتهم وعلى كراسيهم، هل ستنتهي القضية بهذه السهولة؟ بعض أرباب الأعمال يموت وهو غني ثري وقد أكل أموال كثير من الناس ويموت وهو في أوج غناه وثرائه، أليس كذلك؟ بلى.
هل ستنتهي المسألة بهذه البساطة؟ إذاً: هناك لا بد أن يأتي يوم يرجع فيه الحق إلى نصابه، ويقتص للمظلوم من الظالم.
اليوم الآخر مهم ليحجم أهل الكبائر عن كبائرهم، عندما يعلم الزاني أن هناك فرناً في جهنم للزناة فقط، ويعلم المرابي أنه سيسبح في بحر من الدم ويلقم حجراً في فمه، ثم يعود ويسبح ثم يأتي ويلقم أحجاراً، وعندما يعلم الغادر أن له لواءً ينصب يوم القيامة، وعندما يعلم ويعلم ويعلم إلى آخر أصحاب الكبائر، أليس هذا رادعاً لهم، ما الذي سيحل القضية حلاً جذرياً مثل اليوم الآخر؟!! ويوم القيامة يرفع أهل الحديث أعناقهم؛ لأن الله يقول: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] فيأتي الإمام ووراءه المأمومون الذين يأتمون به، فيكون أسعد الناس حالاً هم أهل الحديث؛ لأنهم تابعوا قدوتهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.