مما نعاتب به أنفسنا تقصيرنا في صلة الرحم، زيارة الأقرباء، وبر الوالدين على رأس صلة الرحم، بل أهم شيء في صلة الرحم بر الوالدين، ومع ذلك قصرنا فيه كثيراً، فالذي يكون والداه معه في البيت فهو في شيء من سوء الخلق وعصيانه، وعدم تلبية رغباتهم، وعدم الإحسان إليهم، وكلمة (أف) عنده عادية، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] نهى عن الأذى بالكلام: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ونهى عن الأذى بالفعل: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] وأمر بضد ذلك: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] بدلاً من (أف) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] بدلاً من: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فاكتمل للأبوين الفعل الطيب والكلام والطيب والنهي عن الفعل السيئ والكلام السيئ كما أمر الله عز وجل.
والذي يكون معه والداه في البيت يفعل أشياء مشينة في هذا، وربما نفض يديه في وجههما، نفض الدين في الوجه، هذا يعتبر من أنواع العقوق، ولو كان الوالدان في بلد آخر لكان السؤال قليلاً والتفقد نادراً والوصل بهدية أو مال أو شيء أيضاً أمراً قليلاً، وربما قال: أنا أولى بذلك ونحو ذلك، وصار يجادل أباه على مال أو بيت ونحوه، ويفاوضه كأنه إنسان غريب أجنبي.
عن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين عند أمه فقال: ما شأن محمد يشتكي شيئاً؟ فقالوا: لا، ولكن هكذا كان عند أمه مثل المريض.
وعن ابن عون: أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين، كيف يعلو صوته على صوتها؟ وكان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب فيفلقه، فإذا كان الشتاء جاء بالكانون قالت أمه: فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذلك القصب المفلق لا يؤذي دخانه ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك، أي: هناك خادم لو أراد يأتي بخادم، لكنه يمارس ذلك بنفسه، قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني! ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه.
وكان واحد من كبار العلماء في المجلس تقول له أمه: يا فلان! وهو في المجلس وعنده طلبة العلم، وعنده ناس يكتبون الحديث، قم فألق الشعير للدجاج، فيترك الحلقة ويقوم ليلقي الشعير للدجاج، ويقوم ولا يقول: سكتوها، أو يتبرأ منها، ولست أنا المقصود.
من قضايا الأخلاق والبر والصلة: معاملاتنا مع إخواننا، يوجد من الصدود والنفرة والشحناء والبغضاء والقطيعة والهجران والمعاملة السيئة والألفاظ الخشنة والتعامل الخشن مع إخواننا، ولا شك أن هذا منافٍ للبر، وهو من الأشياء التي نعاني منها كثيراً، كل واحد يعاني من الثاني، وكل واحد يشتكي من الآخر، والعيب مشترك، الخلل فينا جميعاً وليس أحدٌ مبرأ إلا من أبعده الله عز وجل عن هذه الأخلاق.
حتى قضية الإنفاق على الإخوان من الأشياء التي صارت عزيزة، والواحد صار يؤثر نفسه على إخوانه بدلاً من أن يؤثر إخوانه على نفسه، كما قال الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
وابن المبارك رحمه الله كان يأخذ الاشتراكات من أصحابه عند السفر، ثم ينفق عليهم طيلة الطريق، وإذا وردوا البلد يشتري لهم هدايا لأولادهم مما يشتهون ويتمنون، ويقول: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم يا فلان ويا فلان ويشتري الهدايا، فيرجعون إلى أهليهم ثم يعيد إليهم نفقات الاشتراكات ويكون المال الذي صرفه عليهم في الرحلة كله من ماله، وهداياهم من كيسه، وهدايا أولادهم من كيسه.
وكان ابن عمر يخدم أصحابه، وكان يرحل رواحل أصحابه، البعير إذا صار وقت المسير يحتاج إلى تجهيز، فكان يفعل ذلك، وكان يفعل ذلك لخدمه أيضاً.
وكان بعض السلف يواسي أخاه في الحفاء، لما تنقطع نعله يحمل هو نعليه أيضاً ويمشي حافياً فيقول له صاحبه: ما حملك على ذلك رحمك الله؟ قال: أواسيك في الحفاء، أي: مادام أنك لا تريد أن تأخذ نعلي فسأمشي معك في الحفاء، فكان حسن التعامل موجوداً وقائماً.
من الأشياء التي نعاني منها في علاقتنا الأخوية: سوء الظن، إذا رأى من أخيه تصرفاً حمله على أسوأ المحامل، وأول ما يتبادر للذهن الاحتمال السيئ، وليس الاحتمال الحسن، ولا نطبق القاعدة السلفية التي يقولها أبو قلابة: إذا بلغك عن أخيك شيئاً تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل في أخي عذراً لا أعلمه.
وكثيراً ما تكون هذه الصدامات بين الإخوان وبين الشباب سبباً لتفرقهم، والأشياء التي تزرع الشحناء والبغضاء في نفوسهم بسبب أن الواحد لا يعذر الآخر ويتصيد أخطاءه، ويقول الواحدة بالواحدة ويعامل بالمثل، مع أن الآخر ربما ما قصد الشر، لكن هذا يحملها على أنه قصد الشر ثم يعامله بالمثل، ويقول له: وجزاء سيئة بمثلها، من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قل صديقه، من الذي لا يوجد فيه عيب، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه، وهذه من الآفات.
إن بعضنا يعاتب أخاه على كل شيء، أي تصرف خاطئ لا يمره، لا بد أن يوقفه عند كل واحد، أنت فعلت كذا وأنت آذيتني بكذا، وضايقتني بكذا ونحو ذلك من الأشياء، ونتصيد ونجمع الأخطاء ثم تعتمد في نفوسنا وتتحول إلى شحناء وبغضاء، وإذا صار الانفجار يكون دفعة واحدة، ونسرد الأشياء سرداً، ولا عندنا صدر متسع لكي نتحمل أخطاء إخواننا علينا.
وحتى اختلاف الرأي، كم يتسع الصدر منا للخلاف مع إخواننا؟ الخلاف في الرأي لا الخلاف المذموم كأن تكون على سنة وهو على بدعة، أو أنت على علم وهو على جهل؟ لا.
الخلاف في الرأي.
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟! لا يمكن أن يكون الناس على قلب رجل واحد في جميع الآراء.