كلام ابن القيم في خطر العشق

قال ابن القيم في خطر العشق: فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة -يعني: إنسان آدمي ذكر أو أنثى- لغير الله، بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها ويسخطه فواته ذلك، كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك -غصباً عنه ورغماً عنه يعبدها من دون الله- ثم قال: والزنا بالفرج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس، لكن إصرار العاشق على محبة الفعل مع معشوقه وتوابعه ولوازمه وتمنيه له ولو لم يفعل، وتمنيه له وحديث نفسه به ألا يتركه واشتغال قلبه بالمعشوق قد يكون أعظم ضرراً من فعل الفاحشة مرة، بشيء كثير فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثم الكبيرة أو يربو عليها.

وأيضاً: فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية، وأيضاً: فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه أن يتخلص منه، بل يصير تعبداً لازماً للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضرراً وفساداً من فاحشة يرتكبها شخص وهو عالم بتحريمها وقلبه غير معبد لمن فعل بها الفاحشة التي ارتكبها معها.

أما هذا العاشق فقلبه معبد ولو لم يفعل فاحشة.

وذكر كلاماً مهماً معبراً عن حال العاشق أو هذا المتعلق قلبه بهذه الصورة، قال: فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيراً منهم عبداً لذلك المعشوق، متيماً فيه يصرخ في حضوره ومغيبه أنه عبده، فهو أعظم ذكراً له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهداً على ذلك بنفسه: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه بالقرب من معشوقه أعظم من تمنيه للقاء ربه وقربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته فضلة وكان عنه قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله.

يجود لمعشوقه بكل نفس ونفيسة، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته، وخالص ماله وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسياً، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه -يعني: يناجي الله- وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحاً بها ناصحاً له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله.

أما سبب هذه المصيبة العظيمة فهو سبب نقص محبة الله؛ لأن القلب لو امتلأ بمحبة الله ما كان له مجال أن يحب أشخاصاً وأشكالاً بهذه الطريقة المحرمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015