فخلاصة الكلام وجمع الروايات: أن أبا بكر الصديق جاء بهؤلاء الضيوف وسلمهم لولده عبد الرحمن، وقال: أطعمهم ريثما أذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعت يكون الضيوف قد أكلوا وطعموا وانتهوا، فذهب أبو بكر الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما رجع اكتشف أن الضيوف لم يأكلوا شيئاً، وقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ لماذا تأخرت عن الضيوف؟ قال أبو بكر: أوماعشيتهم؟ قالت: إن الضيوف هؤلاء عرضنا عليهم العشاء، فأبوا، قالوا: لا نأكل حتى يأتي صاحب البيت -وهو أبو بكر الصديق - فتناقشنا معهم وحاولنا إقناعهم، فغلبونا وامتنعوا عن الطعام.
وهذا هو السبب وراء تأخير عشاء الضيوف، فنحن عرضنا عليهم، لكن الرفض حصل منهم، وهم الذين امتنعوا، وفي رواية: (أن عبد الرحمن أتاهم بالطعام، فقال: اطعموا.
قالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا، قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء، قال: اقبلوا عنا قراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه شراً) يقول عبد الرحمن: لأجلنا اطعموا، لأنه لو جاء وأنتم لم تتعشوا سيقع فينا.
لكنهم لم يأكلوا، وأصروا على انتظار صاحب البيت، ولعلهم رأوا أن هذا من باب العرفان للصديق ألا يأكلوا قبله، وهو أفضل منهم فانتظروه مع جوعهم، وهذا يسجل لهم أنهم لم يأكلوا الطعام قبل أن يأتي صاحب البيت وهو الصديق، فماذا فعل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق؟ قال: فذهبت فاختبأت، لأنه يعرف ماذا سيفعل أبوه لو جاء والضيوف لم يتعشوا بعد، فذهب فاختبأ، فلما جاء الصديق وقالت زوجته: ما أخرك؟ وقال: ما عشيتيهم؟ قالت: هم الذين رفضوا، فاستلم رأس ولده يريد أن يجره إليه، فقال: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما جئته، حلف عليه، إن كنت تسمع صوتي أن تأتي فوراً، قال: فخرجت، فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم، لا تضع اللوم علي، قالوا: صدقك قد أتانا، جاءنا بالطعام.
أما قوله: جدَّع وسب، فهذا حصل من الصديق في لحظة غضب، والمقصود أنه نزل على ولده باللوم العنيف والتوبيخ والتقريع، أي: قرعه ووبخه وعنفه، لماذا لم يطعم الضيوف إلى الآن؟ ولما قدم الطعام، قال الصديق: كلوا، ولعل ما حصل منه في العتب عليهم؛ لأنهم تحكموا على صاحب المنزل بالحضور معهم، ولم يكتفوا بإذن ولده، مع أن إذن الولد كافٍ، وجاء بالطعام إلى الضيوف، ولكن من الغضب، قال: لا أطعمه أبداً، وفي رواية مسلم: (والله لا أطعمه أبداً) فهذا حلف، وفي رواية: (أنَّ أبا بكر الصديق قال لهم: فما منعكم؟ قالوا: مكانك، قال: والله لا أطعمه أبداً).
ثم قال: (لم أر في الشر كالليلة، ويلكم ما أنتم، لم تقبلوا عنا قراكم، هات طعامك، فوضعه، فقال: بسم الله، الأول من الشيطان، فأكل وأكلوا) وقال بعض الشراح: إن هذا الخطاب ليس للضيوف وإنما لأهله، أن هذا الكلام وجه لأهله.
أما قوله: وايم الله أو ويم الله، فهو قسم، أصله: ايمن بالنون، لكثرة الاستعمال خففت ووصلت وايم الله، وقد يقال: مو الله، أم الله، ونحو ذلك من الاختصارات لهذه الكلمة.
المهم أن الصديق لما قدم الطعام لاحظ -بعدما حلف ألا يأكل وأكل؛ لأنه عرف أن هذا الحلف كان نزغة شيطان- لاحظ شيئاً عجيباً مدهشاً! وهو أنها لا ترفع لقمة، إلا ويبرز تحتها ما هو أكثر منها، أي: أن الذي يبرز ويخرج أكثر من الذي أخذ، فنظر أبو بكر، فإذا شيء أو أكثر، أن جفنة الطعام إما أنها مثلما كانت بعدما أكل الجميع أو أكثر، فقال متعجباً: يا أخت بني فراس! وهذا الخطاب لامرأته أم رومان.
وقال بعضهم: أن هذه المرأة أم رومان رضي الله عنها من بني فراس، ولعلها كانت نسبت إليهم من باب الانتساب إلى القبيلة، كما تقول العرب تنسب إلى قبيلة على أنه أخوهم، أو يقال: يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس! على أية حال فهو نسبها إلى قوم لها علاقة بهم، يا أخت بني فراس! أي: ما هذا؟! قالت: لا وقرت عيني، طبعاً قرة العين هو ما يحبه الإنسان ويسر به، والقرار هو: السكون، لأن العين إذا سكنت؛ تعبير عن راحة الإنسان وهدوء باله، وأنه لا يتطلع إلى أشياء أخرى؛ لأنه وجد ما يريده.
وكما يقول بعضهم: أقر الله عينك بهذا الولد، أي: أفرحك به ونحو ذلك، وضده: أسخن الله عينه، أي: الدعاء عليه بالحزن، لأن دمعة الحزن ساخنة، ودمعة السرور باردة، هكذا قالوا.
فتقول: لهي أكثر مما قبل، أكثر مما وضعناها، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان الشيطان، أي: يمينه، أي: إنما كان الذي حملني على اليمين هو الشيطان؛ لأنه قال في البداية من الغضب، قال: والله لا أطعمه كلوا، وحلف ألا يطعمه، ثم رجع إلى نفسه، قال: هذه الحلف من الشيطان، وأكل وكفر عن يمينه.