إن الدين مذلة؛ لأنه قد يدخل صاحبه السجن فتسوء سمعته وسمعة أولاده وأهله بين الناس، وقد يحرج مع الديَّانة حتى يلجأ إلى الكذب وربما علمه لأولاده، فيقول: قل لهذا الطالب للدين الطارق للباب إن أبي غير موجود، وكذلك إذا اتصل به بالهاتف -مثلاً- يكذب ويعلم أولاده الكذب، وقد يحلف حراماً بالحرام، أو يطلق وهو حانث وكذاب، أو يضطر للتخفي ويتحرج من مواجهة الناس الذين يطالبونه فيتوارى عن الأنظار والمجالس، ويحرم المعيشة الطبيعية ومعاشرة الخلق، وربما ذهب الحياء منه وصار ليس في وجهه ماء، فمهما ألح عليه الديَّانة وطاردوه قابلهم بوجه صلف ونفس ليست بنفس طيبة، فيزول من حيائه ومن ماء وجهه ما الله به عليم، ويكفي وقوعه في بعض آيات المنافق (وإذا وعد أخلف) فهو كثيراً ما يعد فيخلف، وقد يضطر للوقوع في الربا ليس اضطراراً شرعياً وإنما نفسياً لا يجيزه له الله ولا رسوله، فيقترض من المرابين ليسدد بالزيادة ليفر من السجن، والسجن أهون وأحب للمؤمن من الاقتراض بالربا؛ لأنه إذا سجن وهو مغلوب على أمره كان السجن ابتلاء وكفارة، وإذا اقترض بالربا ليسدد الدين فهو ملعون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله آكل الربا وموكله) والموكل: الذي يدفعه إلى المرابي، وقال: (الآخذ والمعطي سواء) فالسجن أحب إلى المؤمن من الاستلاف بالربا لو كانوا يعلمون، ولو كانوا يعقلون، ولكنهم قوم لا يفقهون، وربما استدان من مرابٍ ليوفي مرابياً آخر، وهكذا يزداد عليه الدين ويعظم حتى لا يكون له أملٌ في السداد مطلقاً في حياته.
يقول بعض السلف: لأن تلقى الله وعليك دَين ولك دِين -لأنك لم تدفع بالربا- خيرٌ من أن تلقاه وقد قضيت دَينك وذهب دِينك.
وهو مذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منة الناس بالتأخير إلى حين أوانه، وربما مات فصار مرتهناً بدينه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن نفس المؤمن مرتهنةٌ بدينه، فهو محبوس مأسور حتى يوفى عنه دينه، وهو يجعل المستدين ذليلاً من جهة أنه يحس في قرارة نفسه أنه محتاجٌ إلى غيره، وقد يجر على نفسه تسلط غيره عليه، فإن كان الدائن الذي أعطاه لا يراعي حقوق الأخوة فقد يبدأ بالتدخل في شئونه الخاصة، وقد يتكلم فيما يؤذيه في أهله وولده ومسكنه، بل قد يتدخل في تجارته ومصروفه وراتبه، فيقول: بع كذا، ولا تشتر كذا، وارهن كذا، والمدين المسكين يحرج ولا يستطيع أن يخالف حتى وجهة نظر دائنه، وهو مذلة -أيضاً- لأنه سيسمع من الدائن كلاماً قاسياً ومن الناس كذلك، ويضطر إلى السكوت على مضض، وربما لا يجد جواباً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: [رآني عمر وأنا متقنع، فقال: يا أبا خالد! إن لقمان كان يقول: القناع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة، فقلت: إن لقمان لم يكن عليه دين].
وقال عياض بن عبد الله: الدين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعلها طوقاً في عنقه.
ومن أمثالهم: لا هَمَّ إلا هَمُّ الدين، ولا وجع إلا وجع العين.
ويروى عن عمر أنه قال: [إياكم والدين فإن أوله هَمٌّ وآخره حرب].
وقال عمر بن عبد العزيز: " الدين وقر طالما حمله الكرام ".
ومن أمثالهم: الدين رق فلينظر أحدكم أين يضع رقه.
وساير بعضهم رجلاً وهو يحادثه وفجأة قطع الحديث واصفر لونه، فقال له الرجل: ما هذا الذي رأيت منك؟ فقال: رأيت غريماً لي من بعيد.
ونفَّس بعض المدينين عن نفسه بقوله:
ألا ليت النهار يعود ليلاً فإن الصبح يأتي بالهموم
حوائج ما نطيق لها قضاءً ولا دفعاً لروعات الغريم
الدين هم بالليل وذل بالنهار، نقول هذا الكلام -أيها الإخوة- لأننا نجد في الواقع من الأمراض الاجتماعية تساهل الناس بأمر الدين والاستدانة، نحن لا نعتب على الذين استدانوا اضطراراً فهذه ضرورة وحاجة، لكن الذين يشترون الكماليات التي لا يملكون قيمتها أو بعض قيمتها، فيصبح الاقتراض عندهم من أسهل الأمور، الدين سهل حلو عند أخذه في البداية، ولكنه حنظل مر عند حلول أجله والمطالبة به.
التبذير والإسراف من العادات القبيحة التي فشت بين الناس، وهم لا يرضون بأن يمدوا أرجلهم على قدر لحافهم ولكنهم يريدون أن يصلوا من لحاف غيرهم بلحاف أنفسهم حتى يمدوا أرجلهم أقصى ما يستطيعونه، ولو أنهم تعقلوا فأنفقوا على قدر طاقتهم واستطاعتهم ما حصل لهم هذا الخزي، والعجيب أنك ترى بعض هؤلاء يسكن بيتاً فخماً ويركب سيارةً فارهة، وربما وضع بها هاتفاً سياراً كل ذلك بالدين، ولعله لا يجد في جيبه ما يملأ به خزان وقود سيارته من أجل المظهر، حب المظاهر والشهرة، وحب الظهور أمام الخلق، والمراءاة، وحتى يقال عنه: صاحب كذا وله كذا، مرض والعياذ بالله، يجدد سيارته وليس عنده مال، ويشتري بالتقسيط ولا يقنع، وبعض البنوك تعطي بعض الناس مبالغ يقولون: هذه مليون ضارب بها، يعطونه إياها بالربا، فيعطون المجال لبعض الناس بأن يسلفوهم مالاً يركبه الدين والربا، وهذا الذي يريد المخاطرة والمجازفة وليس عنده دين يأخذه ليضارب به، ثم قد يكسب وقد يخسر، والدين والربا عليه باقيان.
وبعض الناس يستلفون من البنوك بالربا ليعملوا المشاريع، ويشتروا الأراضي ويقول: هذه أرض جيدة وليس عندي مال وفيها مربح، فيستلف من البنك على أمل أن يبيع الأرض بربح يسدد به الدين ويبقى له ربح ولا يعلم بأنه لم يبق له دين.
هؤلاء الجشعين الذين يريدون أن يتوسعوا في التجارات، وليس التوفيق حليفهم والله، ولا بركة لهم في مكاسبهم، يأخذون بالربا، وبعض الناس يتساهلون في الاستلاف من أموال اليتامى أو النساء، ويكون بعض النساء عندهن أموال من الوظائف والرواتب فيأخذها سلفاً ليضارب بها، ولو أنه أخذها إحساناً لأجر، ولكن توسعاً في الدنيا وجرياً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة).
وبعض الناس يستلفون من أموال الأمانات والصدقات التي عندهم وهذا حرام، لا يجوز أن تأخذ من الأمانة، ولو أعطيت صدقة لا بد أن تؤديها إلى مستحقها؛ لأنك وكيل، أعطيت الصدقة فلا يجوز أن تأخذ منها شيئاً.