فإن قال قائل: إذا نظرنا إلى الذنب نجد أن لبعض الذنوب فائدة، فقد يستغرب البعض ويقول: كيف تكون للذنوب فائدة؟ طبعاً أولاً أقول حتى لا يفهم الكلام فهماً خاطئا: كوننا نقول: إن بعض الذنوب لها فائدة، هذا لا يعني أن نفعل الذنوب حتى نحصل على هذه الفائدة، لأن هناك أشياء لا يجوز أصلاً أن يفعلها الإنسان حتى لو ترتب عليها خير، بل إن من فعلها فإنه لن يحصل على خيرها، يعني: إذا فعل شخص الشيء هذا لأجل الخير الذي فيه وهو أصلاً محرم، فربما لا يحصل على الخير أصلا.
إن الذنوب تحدث فيها أحياناً أشياء إيجابية في النفس، وهي لا يجوز فعلها، لكنها وقعت، فعند بعض الناس يكون للذنوب أثر إيجابي في النفس، كيف؟ هذا الانكسار الذي يحدث للمذنب التائب العائد إلى الله وليس المتكبر المستهين أصلاً الذي لا يحصل له خير نهائياً، هذا رجل حصل منه الذنب وتاب إلى الله، ماذا يحصل له؟ يحصل له انكسار وذلة وخضوع بين يدي الله ويتخلص من الكبر، بعض الناس يتخلص من الكبر بطريقة عجيبة: فهو إنسان مستقيم ولكن عنده كبر ويرى نفسه أنه أحسن من الناس وأن الناس هؤلاء يذنبون، فهو أحسن منهم، ويتكبر ويتعالى عليهم، وبعد فترة يقع في ذنب هو نفسه يقع في ذنب، فإذا وقع في الذنب يتبين له حقارة نفسه، ويتبين له قيمتها، ويتبين أيضاً أن الشيء الذي كان يذم الناس به ويتعالى عليهم قد وقع هو فيه، فتذهب صفة العجب، أو يكون هذا الذنب فيه علاج لصفة الكبر الذي في نفسه، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجر المسبحين المتفاخرين، أيهم أحب إلى الله شخص مسبح يتعالى ويتفاخر في التسبيح ويرائي به، أم إنسان انكسر بين يدي الله لذنب فعله وهو يئن الآن ويستغيث بالله أن ينجيه من هذا الهم والكرب الذي وقع فيه؟ فعليك أن تدرك يا أخي أن هذا المذنب لعل الله قد أسقاه بهذا الذنب دواءً استخرج به داءً قاتلاً هو فيه ولا تشعر كما قال ابن القيم رحمه الله: وهذا الانكسار بين يدي الله له أهمية عظيمة، ولذلك أنت تجد في حديث (يا بن آدم! مرضت ولم تعدني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده) لماذا؟ بينما الجائع والعطشان قال: (لوجدت ذلك عندي) أما عند المريض قال: (لوجدتني عنده) يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً: فتأمل هذه اللفظة لماذا؟ للكسرة الحاصلة في نفس المريض من المرض ولو كان أكبر متكبر إذا مرض، يعني: مرضاً شديداً جداً أقعده يحصل عنده نوع من الانكسار، ولذلك تجد الله عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وهذا والله أعلم السبب في استجابة دعوة المظلوم والمسافر والصائم، لأن المظلوم انكسرت نفسه بالظلم، والصائم انكسرت نفسه بالجوع، فانكسرت حدة هذه النفس السبعية الغضبية التي لا تشبع، وهذا المسافر انكسرت نفسه بالغربة، ولذلك تجد الله يستجيب دعاء هؤلاء الناس المسافر والصائم والمظلوم، وكذلك المريض.
ويقول ابن القيم رحمه الله أيضاً: وقد يكون ذنبٌ عند بعض الناس أعظم أثراً من طاعة، كيف؟ يقول: يعمل الذنب فلا يزال هذا الدنب نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيُحدِث له انكساراً وتوبةً وندماً، فيكون ذلك سبب نجاته وفي المقابل شخص محسن وضع الحسنة أمام عينيه يراها دائماً، يقول: ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً ومنةً فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجباً لترتب طاعات وحسنات لأنه يرى السيئة أمام عينيه دائماً فيعمل طاعات ويعمل حسنات، ويخاف الله ويستحي منه ويطرق بين يديه منكسراً خجلاً باكياً نادماً مستقبلاً ربه، حتى يقول الشيطان -اسمع هذه الطرفة- يقول ابن القيم رحمه الله: هذا المذنب الذي يضع السيئة أمام عينيه حتى تحدث له كل هذه الأشياء، حتى يقول الشيطان: يا ليتني لم أوقعه فيها، لما يرى من ترتب الحسنات والعودة العظيمة إلى الله، فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
والذنب أيضاً يحدث الاعتذار إلى الله واللجوء إلى الله ومناجاة الله عز وجل، فالله! ما أحلى قول المذنب في هذه الحالة: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.
هذه المناجاة التي تحدث عقب الذنب، لأن الإنسان يحس بالخطأ يحس بالندم، فيدفعه إلى هذه الأشياء التي يقبل بها على ربه، وهذا هو موضع الحكاية المشهورة التي جاءت عن بعضهم أنه شرد وأبق من سيده، فرأى في باب السكك باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، لاحظ تطابق هذا المثال مع المذنب، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مرتجاً مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه بعد وقت فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني؟ ومن يئويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
يقول ابن القيم رحمه الله -هذا الرجل العظيم الذي قلما أنتجت الأمة الإسلامية مثله في طب القلوب- يقول: فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة هذه التي في القصة الآن من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟