وقد جاء الشارع أيضاً بآداب لما نسمع، وإرشادات لما نتكلم به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع) وما أكثر النقلة الذين ينقلون ولا يتثبتون، ويحدثون بكل ما يسمعون! فلا يحذفون، ولا يكتمون، ولا يحفظون، ويحتفظون بالكذب والباطل والمشكوك فيه والإشاعات الكاذبة.
وكذلك فإن السمع مدار تحديد الوسوسة في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة، فوجد حركةً في دبره أحدث أم لم يحدث، فأشكل عليه، فلا ينصرف) لا يقطع الصلاة، لا يجوز له ذلك (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) علاجٌ بالغٌ للوسوسة، ولمن يسمع أصواتاً في بطنه ورزَّاء، فإنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، والشريعة تريد البينة، وتربي المسلم على الدليل، وليس على اتباع الشكوك والأوهام الظنون.
عباد الله! إن حكم السماع يختلف بحسب المسموع، فقد يكون واجباً، أو مستحباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في عبوديات الجوارح: "فعلى السمع -يعني: من العبادة- وجوب الإنصات والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما، وكذلك استماع القراءة في الجهر إذا جهر الإمام، واستماع خطبة الجمعة في أصح قولي العلماء واجب، ويحرم عليه استماع الكفر والبدع -كالموالد التي ضجوا بها والاحتفالات والاحتفاءات البدعية التي ملأت الدنيا من أرباب الصوفية ومشركي هذا الزمان، وأصحاب البدع- ويحرم عليه استماع الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحةٌ راجحةٌ من رده -الرد عليه- أو الشهادة على قائله بالكفر والبدع عند القاضي ليقام الحد، ويؤخذ بما هو لازم لمكافحة هذا الأمر، أو زيادة قوة الإيمان والسنة، فإن الإنسان المسلم الصادق إذا سمع ببعض ديانات الهندوس والبوذيين مثلاً، حمد الله على النعمة".
"وكذلك يحرم استماع أسرار من يهرب عنك بسره، ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمناً لحقٍ يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه، وكذلك يحرم استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع حاجة من شهادة عند القاضي، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة عند طبيبٍ ثقةٍ ونحو ذلك".
فيتبين لك أيها المسلم أن كثيراً من الذين يستخدمون سماعات الهاتف في سماعٍ إنما يستخدمونها في حرام، ويأثمون بالسماع، ويجلس يسمع الساعات، ويتكلم حراماً في حرام، وإثماً في إثم، ومعصية بعد معصية، والملك يكتب، وسخط الله نازل، والوعيد شديد، والآخرة متحققة، والجزاء واقع، وجنة أو نار.
وكذلك يحرم استماع آلات المعازف والطرب والعود والطنبور واليراع كما ذكر ذلك ابن القيم في عصره، وفي عصرنا الكمنجة والقانون والأرج وغيرها من أنواع المعازف.
وكذلك قال رحمه الله: "ولا يجب عليه سد أُذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه" إذا كان يمشي في الشارع، فسمع صوت غناء، أو سمع صوت موسيقى وهو لا يريد استماعها، لا يجب عليه سد أذنيه، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات، فإنه حينئذٍ يجب عليه سد أُذنيه لتجنب سماعه من باب سد الذرائع، ونظير هذا المُحْرِم لا يجوز له تعمد شم الطيب، ولكن إذا حملت الريح رائحته، وألقتها في مشامه، لم يجب عليه سد أنفه.
وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم وقراءة القرآن وذكر الله، واستماع كل ما يحبه الله مما ليس بفرض، والمكروه عكسه وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا أسماعنا، وأن يحفظ علينا أبصارنا، اللهم متعنا بأسماعنا، ومتعنا بأبصارنا، اللهم متعنا بسائر قواتنا، واجعلها الوارث منا، اللهم احفظ أسماعنا من الحرام، وأبصارنا من الحرام، وحواسنا من الحرام، واجعل ما نسمعه في مرضاتك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.