قال: (فضبط ما روي عن السلف أفضل العلم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلامهم، وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه).
وهذا مثال ذكره بعض الإخوان وهو قضية الإعجاز العلمي في القرآن، بعض الناس يفسرون آيات في القرآن بتفسيرات ليست واردة، بل مخالفة لما قاله السلف.
مثلاً: افترض أنك جئت إلى آية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] وفتحت تفسير ابن كثير، وميزته أنه يجمع تفاسير السلف: مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، وابن عباس، وابن مسعود.
ستجد مثلاً أن الله إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة يتحداهم ويجعلهم في صعيد واحد تحيط بهم الملائكة صفوفاً، ويقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]، ولا يوجد سلطان {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] فيأتي من يقول: اكتشفنا إعجازاً علمياً في القرآن؟ ما هو؟ قال: (لا تنفذون إلا بسلطان) أي: سلطان العلم، أي: صواريخ الدفع النفاثة، هذه التي تخرج، فكر في المعنى القبيح الذي فسرت به، ماذا ترتب على هذا الكلام من قُبح؟ أن الله يتحدى الإنس والجن، ثم بعضهم يقبلون التحدي ويخترعون أشياء وينفذون، هل من المعقول أن الله يتحدى الجن والإنس ويقبلون التحدي، ويتغلبون فعلاً، ويصعدون من أقطار السماوات والأرض، هل هذا كلام يقبل؟! فالجن من قبل قد خرجوا من أقطار الأرض، ويصعدون إلى السماء: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] فكيف يتحداهم وكان قد عملوا بالتحدي وهذا إنما يوم القيامة.
فكثير من الكلام الذي في الإعجاز العلمي للقرآن مخالفة لكلام السلف، ثم تتغير النظرية فيتغير التفسير، فيكون قد ركَّب تفسير الآية على نظرية معينة، والنظرية قد يكتشف خطأها ماذا نفعل وقد فسرنا القرآن على هذا؟! فلا بد أن يقال ما يوافق كلام السلف، لا ما يخالف كلام السلف.
افترض أنهم قالوا مثلاً: اكتشفنا أن القمر انشق من ألف وأربعمائة سنة، زادونا شيئاً جديداً؟ لا! هل خرجوا عن كلام السلف؟ لا.
لكن يأتي رجل يحدث قولاً جديداً، ويخالف السلف، ويقول: أنا توصلت إلى ذلك، ويخالف السلف، فاعلم أنه لا خير فيه.
والمشكلة في قضية الإعجاز العلمي أنه طرح قضايا، وبعد سنة سيأتي مؤتمر آخر لا بد أن يقدم ورقة بحث جديدة، الآن نريد سبق صحفي جديد في اكتشافات قرآنية جديدة فسوف تقل الضوابط عندهم، وكان أولاً يأخذ بالمسلمات وبالحقيقة، وصار الآن يأخذ بالنظريات، ثم صار يتعسف الورقة الثالثة والرابعة والخامسة.
ولذلك المسألة تنفلت وما هي الفائدة؟ أن نخالف تفاسير السلف، الله سبحانه وتعالى لما أنزل القرآن أنزله للعرب والعجم، يا أخي! يكفي التفكر في السماء وما فيها من النجوم، فالله عندما قال: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج:65] ألا يكفي إعجازاً أن السماء لا تقع على الأرض؟! وبعض الأشياء لو لم تشرح فيها إلا الكلام الموجود في التفاسير لكفى إعجازاً، يملؤنا إيماناً.
إذاً: ما يسمى بالإعجاز العلمي منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، ومنه ما هو كلام مشكوك فيه، أي: مثل الإسرائيليات، شيء يُوافق ما عندنا، فنقول: نعم، وشيء يخالف ما عندنا، فنقول: لا، وشيء لا يوافق ولا يخالف، نقول: الله أعلم به، لا نعتقد به اعتقادنا في العقائد، ولا نكذبه، ونقول: إذا كانت هذه الأشياء اكتشافات علمية إذا صدقوا فيها فهي صحيحة.
افرض -الآن- أنه لا يوجد نص من آية أو حديث على أن هناك حياة على كوكب غير الأرض، وغداً أخرجوا هذه المركبات والتلسكوبات، وقالوا: إنا وجدنا حياة ووجدنا دواب تمشي بأربعة عشر رجلاً ورأسين وخمسة قرون، وثلاث أعين على كوكب ما! فكان ماذا؟ ليس عندنا ما يدعو للتكذيب، وجدتموه وصارت القضية موجودة، الحمد لله ليس هناك مانع، ولا محظور في قبوله، إذا صار حقيقة وصار موجوداً، لأنه لا يوجد في القرآن والسنة ما يرده.
قال رحمه الله تعالى: (فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله، مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم، ويحتاج من أراد جمع كلامهم -أي: كلام السلف - إلى معرفة صحيحه من سقيمه، وذلك لمعرفة الجرح والتعديل والعلل، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك، ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك).
عندما نقول: نأخذ كلام السلف ونبحث عن كلام السلف أيضاً يكون عندنا ميزان وهو قضية صحة العبارة، هل صح أن فلاناً من السلف قالها، صحيح قالها ابن مسعود، وصحت عن ابن عباس، وصحت عن فلان وفلان من السلف.