وأما غير وليمة العرس من الدعوات فما حكم إجابتها؟ قال النووي رحمه الله: فيها وجهان: أحدهما: أنها كوليمة العرس.
والثاني: أن الإجابة إليها ندبٌ وإن كانت في العرس واجبة.
ونقل القاضي عياض رحمه الله اتفاق العلماء على وجوب الإجابة لوليمة العرس، قال: واختلفوا فيما سواها.
وقال مالك والجمهور: لا تجب الإجابة إليها، وأهل الظاهر قالوا: تجب الإجابة لكل دعوة، إذاً عندنا شيء واضح وجوب إجابة دعوة وليمة العرس، ومسألة الدعوات الأخرى فيها خلاف، والأحوط أن الإنسان يجيب إذا لم يكن عنده عمل مصلحته أعلى، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام عموماً إجابة الدعوة، وكأن يأتي إلى وليمة العرس خصوصاً.
روى البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك: (أن خياطاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال: فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعيرٍ ومرقاً فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذٍ).
وكلمة المرق مما أجاب به الذين قالوا: لماذا لم يأكل مما يليه؟ لأن الدباء كان في المرق فهو يتتبع، وكذلك أخرج البخاري رحمه الله عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رجل من الأنصار يقال له: أبو شعيب، وكان له غلامٌ لحام، فقال: اصنع لي طعاماً أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة -اعمل حسابك على خمسة أشخاص- فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة فتبعهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للداعي لما وصلوا: (إنك دعوتنا خامس خمسة، وهذا رجلٌ قد تبعنا، فإن شئت أذنت، وإن شئت تركته، قال: بل أذنت له).
من فوائد هذا الحديث الذي ذكره ابن حجر رحمه الله: من صنع طعاماً لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه أو يدعوه إلى منزله، إذا صنعت طعاماً لغيرك سواء دعوته إليك أو أنك أوصلته إلى منزله، فكلاهما يصبح من الإكرام.
ثانياً: من دعا أحداً استحب أن يدعو معه من يرى من أخصائه وأهل مجالسته، إذا دعوت رجلاً وكان له أصدقاء يجلس معهم باستمرار، فالأفضل أن تدعوهم معه حتى لا تفصل بينه وبينهم، وهو يريد الجلوس معهم.
وكذلك: إجابة الإمام والكبير دعوة من دونهم وأكل طعامهم، هذا النبي عليه الصلاة والسلام أجاب خياطاً، وذهب إليه، وقد جاء عند الحاكم بإسنادٍ صحيح حديث في هذا المعنى، وفيه أيضاً ذكرٌ لأدب من آداب الطعام الذي مر معنا سابقاً، وهو قول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه) بل أربع خصال تدل على التواضع، حديث أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار) صححه الألباني.
قوله: (ويضع طعامه على الأرض) فيه دليل على وضع الطعام على الأرض، وإن كان يجوز الأكل على المائدة والخوان كما تقدم، والشاهد من الحديث هذا قوله: (ويجيب دعوة المملوك) أن النبي عليه الصلاة والسلام يجيب دعوة الناس ولو كانوا مغمورين أو كانوا ضعفاء، أو كانوا لا يشار إليهم بالبنان وليسوا ذوي شرف ومكانة بين الناس، وكان يجيب إلى الطعام القليل: (لو دعيت إلى كراع لأجبت) يجيب إلى الطعام ولو كان قليلاً، ولا يستحقره أو يحتقر الداعي، لأن هذا جهده، فيجيبه إليه.
ومن فوائد حديث الأنصاري الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة أن من قصد التطفل أي: المجيء إلى الوليمة من غير دعوة لم يمنع ابتداءً، لا يقال له: لا تأت، يقال: ممكن تأتي لكن لا تدخل إلا بإذن، لأن الرجل يتبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده، لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له، ولعله يأتي بعض الأحكام المتعلقة بالتطفل في النهاية إذا صار هناك متسع من الوقت إن شاء الله.