هؤلاء السبعون ألفاً لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم جاءت روايات أخرى بشائر لنا: أولاً: بالإضافة إلى صفاتهم قال: (تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر) (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة) وقال في رواية: (فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون) البشارة أن هؤلاء السبعين ألفاً ليسوا فقط سبعين ألفاً، بل إن معهم آخرين.
وقد جاء في حديث أبي هريرة وسنده جيد عند أحمد والبيهقي: (فاستزدت -أي: استزدت ربي- فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً) كل ألف من السبعين ألفاً معهم سبعون ألفاً زيادة، وفي رواية: (مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً)، لكن هذه الرواية ضعيفة، لكن الرواية الصحيحة أن الله تعالى زاد النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ألف من السبعين ألفاً -الذين لا يحاسبون من أمته- مع كل ألف منهم سبعون ألفاً، وفي رواية: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي) والله أعلم كم قدر الحثية.
وفي صحيح ابن حبان بسند جيد عن عتبة بن عبد الله: (ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفاً، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه)، فكبر عمر رضي الله تعالى عنه، فهؤلاء السبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً كم سيكون المجموع؟ أربعة ملايين وتسعمائة ألف غير الحثيات، هؤلاء من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، تطلق باعتبارات، إحداها: أمة الاتباع، ثم أمة الإجابة، ثم أمة الدعوة، فالأولى: أهل العلم والصلاح، والثانية: عموم المسلمين، والثالثة: من عداهم ممن بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما حصلت هذه البشارات قام عكاشة، وهو من عكش الشعر إذا التوى، فإذا التوى الشعر يقال في اللغة: عكش، ويقال: عكش القوم إذا حمل عليهم في الحرب، والعكَاشة بالتخفيف: اسم للعنكبوت، وأيضاً اسم لبيت النمل، ويصح في اسم هذا الصحابي الوجهان: عكَّاشة وعكَاشة كلاهما صحيح، ابن مِحصَن، بكسر الميم وفتح الصاد، ابن حرثان، من بني أسد من خزيمة، رضي الله عنه، كان من السابقين إلى الإسلام، وكان من أجمل الرجال، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، وقيل: إنه قاتل حتى انقطع سيفه في يده، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فصار في يده سيفاً كرامةً، ذكره ابن إسحاق بدون سند، وقد استشهد رضي الله عنه في قتال الردة مع خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة للهجرة.
لما سمع عكاشة بهذا قال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت منهم.
وفي رواية: اللهم اجعله منهم) فقوله: (أنت منهم)، خبر بمعنى الدعاء، أو يقال: إنه سأل الدعاء ثم أجيب فأخبر بالجواب، (ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن أكون منهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة)، لماذا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم للثاني وقال: (سبقك بها عكاشة) قالوا: إن معنى (سبقك بها) أي: بإحراز تلك الصفات، فأنت لست مثله في قضية التوكل وعدم التطير إلى آخره، وقيل: عدم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للثاني لسببين: الأول: أن هذا الرجل كان منافقاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يدعو له لأنه منافق، ولم يرد أن يجيبه بما يكره فقال: (سبقك بها عكاشة)، وقيل: إن هذا ضعيف؛ لأن الأصل في الصحابة عدم النفاق، وما الذي يثبت أن هذا كان منافقاً؟ وثانياً: قوله: (ادع الله أن يجعلني منهم)، غالباً لا يصدر إلا من قلب صحيح حريص على دخول الجنة، وهذا يتعارض مع النفاق، وإلى هذا مال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن القضية ليست قضية نفاق، لكن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم خاف أن ينفتح الباب، فكل واحد سوف يقول: ادع الله أن أكون منهم، فيدخل فيها من ليس من أهلها؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلاً: (سبقك بها عكاشة)، إذاً: أراد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي أحد ليس على مستوى هذا ويطلب ثم يرد، ويكون هناك دخول في قضية تعيين أشخاص والتفريق بين الأشخاص، فحسماً للمادة قال: (سبقك بها عكاشة) وربما يطلب بعض المنافقين ذلك مندساً، وتتسلسل القضية بدون أن يكون لها نهاية واضحة.