الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أعطى كل شيء خلقه وهداه، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! إن من الأسباب التي تجعل المؤمن يعيش في أمان وطمأنينة، وراحة نفسية، وحياة طيبة، كما قال الله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] إن من الأسباب: مسألة رضا المؤمن بالله، ورضاه عن الله، ورضا الله عنه، ولذلك كان الساخط إنساناً دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيق الصدر، تضيق الدنيا به على سعتها كأنها سم الخياط، والمؤمن راض بأمر الله تعالى، يكتنفه في قضية القدر أمران: الاستخارة قبل وقوع الشيء، والرضا بعد وقوعه، إنه إذا احتار فإن السبيل أمامه واضحة: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، فيسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به.
يتمنى الكفار لو وجدوا شيئاً كهذا؛ لأنهم يحتارون كما نحتار، ولكن لا سبيل عندهم لمعرفة الاختيار، وأما المؤمن فإنه يلجأ إلى الله، راضٍ بالله (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً) رواه الإمام أحمد ومسلم.
المؤمن راض عن نفسه، وراض عن ربه، وهو يشعر بأنه -ولو كان فقيراً ولو كان ما كان حاله- لا يزال يتقلب في نعم الله، أولها نعمة خلقه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] ويتملى كذلك في حسن خلقه وتفضيله على غيره: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
وثالث النعم: نعمة الإدراك والعلم {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:3 - 5] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
ورابع النعم: نعمة البيان النطقي والخطي {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4].
وخامسها: نعمة الرزق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:3] نعمة النَّفَس نعمة، ومن وقع في مرض الربو وغيره عرفها.
والنعمة الخاصة بالمؤمن: نعمة الإيمان والهداية {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7].
والسابعة: نعمة المحبة والأخوة التي يعرفها المتآخون في الله، المجتمعون على طاعة الله، قلوبهم متحدة برباط الأخوة {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
إن المؤمن راضٍ عن ربه دائماً وأبداً، فإذا ختم طعامه قال: الحمد لله الذي أطعمنا، وإذا اكتسى ثوباً قال: الحمد لله أنت كسوتني، اللهم لك الحمد أنت كسوتني، وإذا ركب دابة قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13] وإذا استيقظ من نومه قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإذا قضى حاجته في الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، وإذا رأى مبتلىً في حواسه قال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وإذا تم له ما يريد قال: الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وإذا لم يتم له ما يريد قال: الحمد لله على كل حال، فهو لا يزال يتقلب في رضا الرب ويحمد ربه في جميع أحواله.
إن قضية الرضا مسألة عظيمة لا يعرفها إلا المؤمنون، لقد كتب أحد الكفرة إف إس بودلي يقول: في عام 1918م أوليت ظهري للعالم الذي عرفته -للغرب- طيلة حياتي ويممت شطر إفريقيا الشمالية الغربية حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد كانت تلك الأعوام التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سنين حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان، والرضا بالحياة، لقد تعلمت من عرب الصحراء التغلب على القلق، فهم بوصفهم مسلمين، يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً ليناً، فهم لا يلقون أنفسهم بين براثن الهم والقلق إنهم يؤمنون بأن ما قدر يكون، ولا يصيب الواحد منهم إلا ما كتب الله تعالى، وليس معنى ذلك أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفو الأيدي كلا.
دعني أضرب مثلاً لما أعني: هبت ذات يومٍ عاصفة عاتية، حملت رمال الصحراء وكانت عاصفة حارة شديدة الحرارة، حتى أحسست كأن شعر رأسي ينتزع من منابته لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوعٌ إلى الجنون، ولكن العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم وقالوا كلمتهم المأثورة: قضاء مكتوب، ولكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء فعلوا هذا كله في صمتٍ وهدوء دون أن تبدوا من أحدهم شكوى، وقال رئيس القبيلة: لم نفقد الشيء الكثير فقد كنا خلقاء بأن نفقده، وبأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً، فإن لدينا نحو أربعين بالمائة من ماشيتنا وفي استطاعتنا أن نبدأ بها من جديد.
شهادة شهد بها ذلك الكافر على الرضا بالقضاء عند المسلمين، الرضا بما كتب الله، والرضا بما قسم الله وكثيرٌ من الناس يفقدونه، تأمل قول الله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] إنها تعلم القناعة، والرضا بما قسم الله تعالى، وتأمل قول الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] فبين لهم أن هناك أمراً لا يمكن تغييره، وهو أن يصبح الرجل امرأة، أو المرأة رجلاً وإن قاموا بعملية لتحويل الخنثى، لكن تحويل رجل كامل الذكورة إلى امرأة كاملة الأنوثة لا يتمنى هذا هذا، ولا هذا هذا، والشيخ إذا ولى شبابه لا يتمنى ولا يحقد على الشاب، وإنما هو مستريحٌ بقضاء الله تعالى.
هذه حياة المؤمن أيها الإخوة! وهذا طرفٌ من الحياة الطيبة التي يشيعها الإيمان في جنبات الإنسان، ومن تدبر عرف، والقضية أهلٌ للتدبر والتأمل والتفكير، والمقارنة بين حال المؤمن وحال غيره هي التي تجعلك تشعر بنعمة الله عليك.
اللهم إنا نسألك الأمن والأمان، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع الأكبر، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وأهلك عدونا، واستر عيوبنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا في حياتنا مطمئنين، وفي الألحاد من الآمنين، ويوم القيامة من الفائزين يا رب العالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.