عباد الله! إن الإيمان الذي حرم منه الكفرة والملاحدة قادهم إلى شقاء؛ لأن الواحد منهم لا يعرف الحكمة من خلقه، ولا السبب في وجوده في هذه الحياة، يولدون ويعيشون كالبهائم ويموتون كالهمل، لقد قال قائلهم:
لعمرك ما أدري وقد أذن البلى بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه عن الهيكل المنحل والجسد البالي
فأجابه مؤمن: وما علينا من جهلك إذا كنت لا تدري إلى أين ترحالك؛ فإننا ندري إلى أين المصير، قال الله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} [الانفطار:13 - 14].
لقد حاولوا أن يحلوا أسرار الوجود، وقام فلاسفتهم فتكلموا، وقام الذين تبعوهم من بعدهم فتكلموا؛ فإلى أي شيءٍ انتهوا؟
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وتمنى أحدهم لو رزق إيماناً كإيمان العجائز {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] حيران: هو الوصف الدقيق البليغ لهذا الوضع {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام:71].
إن الذي لا يؤمن لا يثبت على قرار ولا يدوم على وجهة أو طريق.
كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق
إن أمرهم يعيش بين ضياع عن معرفة الهدف من الخلق وشعور بالجبرية، فتجد مذهب الجبرية في كلامهم، وهذه قصيدة الخيام التي غنتها من يقول بعض الناس: إن غناءها عفيف بينما فيه الكفر والإلحاد:
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت أين المفر
وقال المعري الملحد في قديم أمره:
نفارق العيش لم نظفر بمعرفة أي المعاني بأهل الأرض مقصود
وقال:
سألتموني فأعيتني إجابتكم من ادعى أنه دارٍ فقد كذبا
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبكا
ولذلك امتنع هذا عن الزواج حتى لا يجني الشقاء على ذريته كما جناها عليه أبوه وأمه، وقال:
وأرحت أولادي فهم في نعمة الـ عدم التي فضلت نعيم العاجل
فأراحهم في نعيم العدم من الشقاء الذي رآه وقال الآخر معبراً عن عقيدة الجبرية التي يحس بها من لا إيمان له:
جئنا على كرهٍ ونرحل رغَّماً ولعلنا ما بين ذلك نجبر
والملحد الحديث الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
وطريقي ما طريقي أطويل أم قصير
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقف والدهر يجري لست أدري
أتراني قبل ما أصبحت إنسانا سويا
كنت محواً ومحالاً أم تراني كنت شيا
ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا
لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري
لكن المؤمن يدري؛ لأن الغاية عنده واضحة والطريق أمامه واضح {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] ما أعظم الفرق بين رجلين: أحدهما عرف الغاية التي من أجلها خلق فهو يسعى لتحقيقها فيطمئن ويستريح، والآخر ضال يخبط في عماية ويمشي إلى غير غاية.
إن المؤمن لما عرف الغاية وسار في طريقها استعذب كل عذاب، واستهان بكل صعب، ولما اجتمع عليه الكافرون ليشمتوا فيه، ويظهروا الحرب النفسية، ويرشقونه بالسهام، وهم يظنون أن أعصابه ستنهار في ذلك الموقف قال معبراً عما يدين به:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ
ألا ترى إلى الرجل من الصحابة ومن تبعهم بإحسان يخوض عباب الموت والموت يبرق ويرعد وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] ألا تسمع إلى أحدهم وهو حرام بن ملحان رضي الله عنه وقد نفذ الرمح في صدره وهو يقول: فزت ورب الكعبة.
وفي غزوة الأحزاب لما ابتلي المسلمون ابتلاءً شديداً، وزلزلوا زلزالاً عظيماً {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] كان للمؤمنين موقفٌ آخر: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] من الذي وهب السكينة لهم فأعانهم على الثبات؟ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] لماذا تنخلع قلوب العالم الآن؟ كثيرٌ من الناس في اهتزاز، شخصياتهم في اهتزاز، أفكارهم مشوشة ومضطربة، الأمراض النفسية؛ لأن القلوب لم تطمئن بذكر الله، فظهر المرض النفسي الخطير مرض التوحد، الذي يشبهه الأطباء النفسانيون -يشبهون صاحبه- بشخصٍ في غرفةٍ جميع جدرانها مرايا، فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وليس لهذه الغرفة أبوابٌ ولا نوافذ، هكذا يعيشون، ويقول أحد أطبائهم: إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية، وبحثوا وبحثوا وأجروا التجارب وفي النهاية قالوا: لا حل إلا بالرجوع إلى الدين.
كيف يشعر بالتوحد من يقرأ في كتاب الله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] كيف يشعر بالتوحد من يقرأ قول الله ويعتقد به: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] إنه شعور موسى عليه السلام لما قال لبني إسرائيل: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وهو مشاعر محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لصاحبه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فالسكينة والطمأنينة في الإيمان، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإيمان، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وبك مؤمنين، وعليك متوكلين، وبك واثقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.