ذكرنا في موضوع التدرج أموراً، ونضيف إليها كذلك: تلقي مسائل كل باب من أبواب الفن أولاً:- فإذا أراد الإنسان أن يدرس فنّاً من الفنون، فكيف يتدرج في دراسته؟ أولاً: يتلقى مسائله الأصلية -أصول الفن- ويقرأ شرحها ويَسْمعه من الشيخ على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك استعداداته وعقليته حتى يُنهِي الفن بشكل مُيَسَّر مبسَّط شامل في البداية، فيتهيأ لفهم الفن وتحصيل مسائله بعدما أخذ فكرة إجمالية عنه.
ثم يرجع إليه مرة ثانية بمرحلة أعلى من الأولى فيها رتبة أعلى، فيستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، وتُذْكَر له أوجه الخلاف إلى أن يتمه مرة أخرى.
ثم يرجع ثالثة وقد اشتد فلا يترك عويصاً ولا مغلقاً إلا فتح مُقْفَله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته وحصل له بذلك نفع كبير.
فإذاً هذا التدرج وهو في الغالب يأتي على ثلاث مراحل.
كما ذلك ذكر بعض أهل العلم، هذا أمر مهم؛ لأن بعض الطلاب إذا أراد أن يدرس فناً، فإنه يريد أن يأتي من أوله على دقائقه، وتفصيلاته، ومسائله، وتعقيداته، وعُمقه، وهذا خطأ، فلا بد أن يأخذ ما يلي: أولاً: فكرة إجمالية عبر متن مبسَّط سهل في شرح عام من دون الغوص في التفاصيل، ثم بعد ذلك المرحلة الثانية: يعرف الخلافات، ثم المرحلة الثالثة: يغوص في دقائقه ومصاعبه.
لأن المتعلم إذا حصَّل مَلََكة في علمٍ من العلوم استعدَّ بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد، أما إذا غاص من البداية في عمقه فإنه يعجز عن الفهم، ويحصل له يأس من التحصيل.
وتكلمنا كذلك على مسألة البدء بصغار العلم قبل كباره، وهذه تتبع التدرج، وقال الله عز وجل: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] والرباني هو: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويعلم الناس صغار العلم قبل كباره.
وقد قال بعض العلماء وهو علي بن المديني -رحمه الله- معلقاً على هذه المسألة في قضية طلب الحديث؛ لأن طلاب الحديث كانوا يكتبون الحديث في البداية يكتبون الحديث البسيط الذي له طرق بسيطة، ثم يبدءون يكتبون الحديث الذي له طرق أكثر وهكذا يتدرجون.
فقال ابن المديني ضارباً المثل على هذا المفهوم: إذا رأيت الحَدَث أول ما يكتب الحديث يجمع حديث الغُسْل وحديث مَن كذب، فاكتب على قفاه: لا يفلح؛ لأن حديث الغسل وحديث مَن كذب هذه أحاديث أطرافها واسعة، وطرقها كثيرة جداً، فإذا بدأ بها بدأ معناها بالمقلوب بدأ بالواسع بدأ بالكثير ولم يبدأ بالسلم من بدايته.
وقال ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- فيما ينبغي على طالب العلم أن يجمع: ينبغي عليه أن يتدرج، فيأخذ المبسط، ثم بعد ذلك يضيف إليه ما اجتنى من الثمرات، ويقتنص الفوائد.