مسألة الكسب -أيها الإخوة- مسألة شرعية تحصيل المال لإنفاقه على النفس، وسد الحاجة مطلبٌ شرعي، وليست قضيةً دنيويةً بحتة يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة، أجرٌ وثوابٌ في الآخرة، فهي ليست قضية دنيوية مجردة، وهذا من الفروق بين المسلمين والكفار؛ فالكفار لا يحتسبون -في عملهم للدنيا في وظائفهم ودراساتهم وأبحاثهم- أجراً عند الله، وإن كانوا يقولون: إن ذهابهم إلى الكنيسة من أجل أن يجدوا فائدة ذلك بعد الموت، لكنهم لا يحتسبون في أعمالهم الدنيوية أي نوعٍ من أنواع الأجر.
وأما المسلمون: فانظر في هذا الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم في الخارج من بيته: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان).
مسألة الغرس التي يغرسها الإنسان في الأرض، مع أن ظاهرها قضية دنيوية، ولكن لها في الآخرة اتصال وثيق؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) رواه البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض.
ويستنبط منه: اتخاذ الضيعة -وهي التي يسميها الأولون بهذا الاسم- كالمزرعة وغيرها، والقيام عليها.
وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة من الصوفية وغيرهم.
فأما ما ورد من النهي عن ذلك فإنه يحمل على من استكثر بها واشتغل عن أمر الدين، وقوله: "إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة"، مقتضاه أن أجر ذلك الغرس يستمر حتى لو مات الزارع والغارس وانتقل ملكية الزرع إلى غيره.