كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ينتقي شيوخه انتقاءً بالغاً، ولذلك قال بندار: ضرب عبد الرحمن بن مهدي على نيِّف وثمانين شيخاً يحدث عنهم سفيان الثوري، ضرب عليهم، أي: شطب على أحاديثهم، لأنه لم يرتض تلك الروايات.
أقول تعليقاً على القصة الماضية: عندما يكون عند الطالب شيخ مربٍّ، وليس فقط يلقي معلومات تخرج نماذج جيدة، ولذلك عبد الرحمن بن مهدي يُخرج علي بن المديني، مثل: علي بن المديني يخرج البخاري، ولم يكن أولئك العلماء مجرد مثقِّفين ومحفِّظين، ويلقوا المعلومات، كانت هناك تربية، يعني: قضية الوعظ والتعنيف والتوبيخ على ما يبدر من الطالب من اعتداد بالنفس، أو ثقة زائدة فيما عنده، أو يظن أنه حصَّل العلم وختمه ولم يعد هناك شيء زائد، ويُلام ويقرَّع، ويُثبَت له بالدليل من الشيخ أن عنده نقصاً، وأنه ما استكمل، هذا يربي عند الطالب ويؤسس في نفسه التواضع للعلم ولأهل العلم، وأنه لا يمكن أن يظن يوماً واحداً أنه ختم العلم، فمن ظن أنه قد علم، فقد جهل، ولذلك يقولون: "كلما ازددنا علماً، ازددنا جهلاً" فكلما اكتشفنا أن هناك أشياء وأشياء ما اطلعنا عليها، وهناك أشياء ستأتي بالتأكيد لم نطلع عليها، فنكتشف جهلنا بأنفسنا بمزيد من الاطلاع على العلم.
ولذلك ذو العقل يشقى بعقله، ولكن أخا الجهالة مُكَيِّف، يظن أنه على شيء.
ولذلك -الآن- تعرض مسائل في مَجالس العامة، بعضهم بأدنى سبب وبأدنى مناسبة يتكلم ويفتي، وهو لم يطلع على فتاوى أهل العلم، ولا على خلاف العلماء، ولا على الأدلة، ولا على ما صح، ولا على ما ضعف، يتكلمون ويهيمون ويسرحون، وطالب العلم تأتي إليه المشكلات والأشياء العويصة، ويتوقف عندها، ويحار فيها، ويسلِّم بعجزه وتقصيره أحياناً، وتخفى عليه أشياء، فيَعرف هذا الشخص قيمته.
وثانياً: أن الشيخ الذي يربي لا بد أن يكون عنده ما يربي، ويكون عنده تفوق:- لأن القضية ليست أنه فقط يقول: لا تظن نفسك علمت، ثم لا يستطيع أن يقنعه بأنه جاهل وعنده نقص، أو أن عنده ما ليس عنده، فعند ذلك عندما يكون هذا العالم عنده ما يميزه عن الطالب عنده محفوظات كثيرة يستطيع أن يقنع الطالب بعد ذلك أنه يحتاج لمزيد من التعلم، وأنه لا زال في الطريق أو في أوله.