قال علي بن المديني: فلما كان بعد سنة، جاء سليمان إلى الباب، وكان سليمان زميلٌ لـ علي بن المديني، وكان يجمع الآثار في الفقه، وبالذات في مسائل الحج والمناسك، فقال ممازحاً لـ علي بن المديني، وبكلام فيه شيء من التحدي، قال: امض بنا إلى عبد الرحمن حتى أفضحه اليوم في المناسك.
قال علي بن المديني: وكان سليمان من أعلم أصحابنا بالحج، فشهد له فعلاً بعلمه التام بالمناسك.
قال: فذهبنا فدخلنا عليه، وسلَّمنا وجلسنا بين يديه.
فقال: هاتا ما عندكما، أظنك يا سليمان صاحب الخطة، والمؤامرة، وأنك حِكْتَ شيئاً قبل الإتيان إلى المجلس، يعني: من فراسة عبد الرحمن بن المهدي رحمه الله أنه عرف من عيني سليمان أنه جاء لتِحَدٍّ لشيء ما.
قال سليمان معترفاً: نعم، لا أحد يفيدنا في الحج شيئاً، ما يمكن أن تجد لي حديثاً أو أثراً لا أعرفه في مسألة من مسائل الحج.
قال علي بن المديني: فأقبل عليه بمثل ما أقبل عليَّ، أي: تعنيفاً وتوبيخاً.
ثم قال: يا سليمان! ما تقول في رجل قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فوقع على أهله؟ أي: جامع زوجته قبل الطواف.
فاندفع سليمان، فروى حديث (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) هذه المسألة لم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ورد حديث ضعيف، وهناك فتاوى عن الصحابة، وجاءت آثار عن عبد الله بن عمرو، وعن عمر، وعن غيرهما في أن الرجل إذا جامع زوجته في الحج، يفرَّق بينه وبين زوجته، وتذهب مع رفقة مأمونة إلى حيث ينتهي الحج، ثم يأخذ زوجته.
إذا جامع قبل عرفة، يفسد الحج، ويفرَّق بينهما، ويكملان الحجة الفاسدة، ثم يأتيان بحجة بدلاً منها صحيحة من العام القادم مع ذبح بدنة، وإذا جاء في العام القادم ليحج الحجة الجديدة، حصل خلاف بين أهل العلم هل يفرَّق بينهما، أو لا، وإذا فُرِّق بينهما من أين؟ ومتى؟ حتى لا يحدث ما حدث في العام الذي قبله، هل يفرَّق بينهما من حين الإحرام؟ أو يفرَّق بينهما عند الموضع الذي جامعها فيه في الحجة الماضية؟ فلو كان مثلاً جامعها بعد فجر يوم عيد الأضحى، هل نقول لهما: أنتما معاً إلى أن تصلا إلى منى يوم العاشر فنفرقكما عن بعضكما، وتجتمعا بعد ذلك إذا انتهيتما؟ وهل تكون التفرقة في المكان الذي جامعها فيه.
مثلاً: وصل إلى منى، نقول: أنت جامعتها الحجة الماضية في منى، الآن وصلت إلى منى، فانفصل عنها؟ هل يكون التفريق في المكان، أو في الوقت؟ إذا جاء إلى نفس الوقت الذي كان قد أتى به في تلك الحَجَّة، يفرق بينهما؟ المسألة فيها كلام طويل.
قال: فاندفع سليمان فروى (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا).
فقال عبد الرحمن بن مهدي لـ سليمان: اروِ، هات نص الآثر، ومتى يجتمعان؟ ومتى يتفرقان؟ قال: أنت تقول الآن: (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) وحيث ممكن للمكان وممكن للزمان، يقول: فصِّل، هات التفريق في الزمان، وهات التفريق في المكان، وهات من روى بهذا من الصحابة ومن التابعين، ومَن الذي رُوِيَت عنه آثار التفريق في المكان والزمان والخلاف في الروايات.
قال: فسكت سليمان.
فقال: اكتب.
وأقبل يُلقي عليه المسائل ويملي عليه حتى كتبنا ثلاثين مسألة، في كل مسألة يروي الحديث والحديثَين، ويقول: سألت مالكاً، وسألت سفيان، وعبيد الله بن الحسن.
قال: فلما قمتُ، قال: لا تَعُد ثانياً تقول مثلما قلتَ.
فقمنا وخرجنا، قال علي بن المديني: فأقبل عليَّ سليمان، وقال: لماذا خرج علينا من صلب مهدي هذا؟ ومهدي هو أبو عبد الرحمن، قال: لماذا أنجب هذا؟ لماذا طلع علينا من الأب هذا؟ كأنه كان قاعداً معهم، سمعتُ مالكاً وسفيان وعبيد الله، يتعجبون من حفظه.